قضايا وآراء

قتل المرتد في ضوء اغتيال ناهض حتر

1300x600
هز مقتل الكاتب ناهض حتر في الأردن العالم العربي وجاء صخب ردود الأفعال بحجم الصخب الذي أثاره الرجل في حياته بمواقفه المؤيدة لبشار الأسد وأخيراً بنشره رسماً ساخراً يتضمن إساءةً للذات الإلهية..

اعتماد القتل أسلوباً للتعبير عن رفض المواقف والآراء لا تتمثل خطورته في هذه الحادثة بذاتها، بل في أنه يفتح الباب لاستحلال قتل أي مخالف بعد ذلك حتى وإن كان اختلافه في الدائرة الطبيعية لتعدد الآراء والأفهام، فالذين يتخذون من القتل منهاج حياة لا يفرقون بين الكفر الصريح وبين الرأي المخالف، وأيسر شيء على نفوسهم توزيع أحكام الكفر والزندقة والردة على الناس.

قبل أسابيع دعا أستاذ جامعي إلى اعتماد قانون لتعريف تهمة الزندقة وتحديد عقوبتها الملائمة، وذلك بهدف "حماية شبابنا من الأفكار المنحرفة" حسب قوله.

تهمة الزندقة في تاريخنا تشبه تهمة الهرطقة في تاريخ أوروبا، وهي من النقاط المظلمة إذ استعملت سلاحاً بأيدي الحكام المستبدين للتخلص من كل صوت معارض برميه بتهمة الزندقة، مما يعني تحويل الخصومة السياسية والفكرية إلى خصومة مع الله فتنزع الشرعية بعد ذلك عن وجود أي معارض فكري أو سياسي ويسهل التخلص منه.

لو بحثنا عن الشخصيات التي اتهمت بالزندقة في تاريخنا سنصدم بأسماء لامعة مثل ابن رشد والفارابي والجاحظ و الرازي وابن سينا، من هؤلاء من قتل شر قتلة ومنهم من أحرقت كتبه مما يعطي مؤشراً على إجهاض مبكر للحركة العقلية، وهو ما عجل في أفول شمس الحضارة الإسلامية وطلوعها من الغرب الذي ترجم كتب ابن رشد في الوقت الذي كانت تحرق فيه في حواضر الأندلس.

لا يوجد في القرآن تشريع للقتل على خلفية الرأي ولا على خلفية السخرية من الدين، فالقرآن كتاب هداية روحية ورحمة للعالمين ومجادلة بالتي هي أحسن، ومثل هذه المفاهيم المستحلة لقتل الآخرين تجعل من الدين سيفاً مسلطاً على الرقاب وقيداً يمارس الوصاية على العقول وأداةً يستعملها الطغاة في تصفيه حساباتهم..   

يقول القرآن: "لا إكراه في الدين"، و فيه: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". و ينزع القرآن صلاحية الوصاية على الناس من النبي محمد ذاته فكيف بمن هم دونه: "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، "وما على الرسول إلا البلاغ المبين"، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين". 

في القرآن دعوة للمجادلة بالعقل وليس أكثر من ذلك: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، "هل عندكم من علم فتخرجوه لنا"، "إن عندكم من سلطان بهذا"، "قل فائتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين". 

حتى حين يتجاوز الأمر النقاش الفكري إلى السخرية والاستهزاء فإن أقصى ما يدعونا القرآن إليه هو الانسحاب والمقاطعة: "  وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ  إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ."، لم يقل اقطعوا رءوسهم أو أطلقوا عليهم الرصاص لأنهم تزندقوا أو ارتدوا، بل قال: "فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث معهم"، و من اللافت في هذه الآية أنها مدنية تتحدث عن المنافقين، وهو ما يقوي الاستدلال بها إذ إنها تتعلق بمرحلة كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيها قائداً سياسياً وقاضياً وليس مجرد داعية مستضعف.

ماذا نفعل بمئات الآيات المحكمات التي تؤكد حرية الإيمان والكفر، وتحدد لنا المحاججة العقلية والاحتكام للبرهان طريقا وحيدا للتعامل مع الشبهات الفكرية وتنزع أي صلاحية للوصاية على الناس من أي إنسان وإن كان النبيَّ محمداً ذاته؟

يجد المتطرفون حلاً بسيطاً لهذه المعضلة: كل هذه الآيات منسوخة! وما الذي نسخها؟ ربما يقولون إن ما نسخها هو حديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، وربما يكون دافعهم للاعتقاد بنسخ كل هذه الآيات المحكمات هو التجربة التاريخية للمسلمين، إذ إن التطبيق التاريخي يحظى بقداسة في ثقافتنا أكثر مما تحظى به آيات القرآن المحكمات.

يقول الأستاذ محمد المختار الشنقيطي: "إن آية (لا إكراه في الدين) وردت بصيغة من أعم صيغ العموم في اللغة العربية وهي النكرة في سياق النفي والنهي، مما يعني شمولها لكل الأحوال: ابتداءً، واستمراراً، وانتهاءً، وإن من العجب أن يسألنا أحدهم ماذا فعلتم بحديث آحاد ملتبس المعنى (من بدَّل دينه فاقتلوه)، ولا يسأل نفسه ماذا فعل بآية محكمة (لا إكراه في الدين)؟ ويسأل الشنقيطي مستنكراً: "أي الكسبين تفضِّل بين يدي ربك: إزهاق روح بحديث آحاد، أم إحياؤها بآية محكمة؟"

يرى الشنقيطي أن قتل المرتد ليس سوى مصيبة من المصائب الفقهية في تاريخنا التي قاد إليها نبذ القرآن وراء الظهور، ويتعجب من المنطق الفقهي الذي يؤمن بإكراه المسلمين في الاعتقاد وبحرية غير المسلمين في الاعتقاد، وهو ما يعني أننا نجعل من الجرم أن يولد الإنسان مسلماً، أما حروب الردة فيفسرها الشنقيطي بأنها كانت رداً على التمرد العسكري على السلطة الشرعية ومنع حقوق الفقراء، ولم تكن لإكراه الناس على الرجوع إلى الإسلام، وما يؤكد هذا الرأي الذي قال به مجموعة من الفقهاء عدا الشنقيطي أن الأحناف يرون عدم قتل المرأة بالردة لأنها لم تكن مقاتلةً في المجتمعات القديمة، وهذا ما يبين أن علة القتال كانت التمرد العسكري وليس الاعتقاد القلبي.

يطمئن القلب إلى هذا الرأي لأنه يوافق التوجه العام للقرآن، فروح القرآن لمن يتمثلها أبعد ما تكون عن نصب مقاصل للرءوس ومحاكم للأفكار وتفتيش نيات الخلق، وإكراه الناس على الدين يشيع بينهم النفاق وهو شر من الكفر، والذين يظنون أن الله منحهم صلاحيات خاصةً لمحاسبة الناس في الدنيا إنما يريدون أن يلعبوا دور الإله في محاسبة الخلق ويظنون أنهم يملكون ميزان الحقيقة المطلقة ليحددوا للناس ما يرونه وينسون أن الله تعالى لم يرض لنبيه هذه الوظيفة في الأرض: "وما أنت عليهم بجبار".  
عدا الموقف المبدئي الرافض لهذا التفكير الإكراهي فإنه يفتقد أيضاً إلى المعايير والضمانات التي تحول دون حرفه عن دعواه الأساسية، فهو يجعل من أفهام أصحابه معياراً للحق والباطل، وبذلك لن يطال ضرر هذا التفكير المرتدين وحدهم، إنما سيطال كذلك المؤمن الذي أوصله اجتهاده إلى نتيجة مختلفة إذ ينظر المتعصبون إلى الاختلاف الفكري بأنه اختلاف مع الدين ذاته، و يعطون أنفسهم صلاحية النفاذ إلى قلوب العباد وتحديد دوافعهم ومحاسبة نياتهم.

بالمناسبة فإن الردة والكفر في القرآن هي مواقف نفسية وليست اجتهادات فكريةً، أي إن المرء لا يوصف بالكفر أو الردة بسبب نشاطه العقلي، إنما يوصف بذلك إذا ارتد على أدباره ونكص على أعقابه بعد أن تبين له الهدى، لكننا خلطنا في مفاهيمنا على نحو خطير بين الموقف النفسي الذي يقود صاحبه إلى الكفر بسبب العناد والاستكبار وبين التفكير الحر المتجرد للحق والذي لا يمكن أن يؤدي إلى الضلال.  

إذا فتح باب اتهام المخالف بالزندقة والردة واستحلال قتله فمن الصعب إغلاقه، وسيجد كل طاغية في هذا الباب ضالته في محاربة معارضيه وسيكون بإمكان أي واعظ سلطاني أن يؤول النصوص وفقاً لأهواء الحاكم وأن يبدع ويكفر ويضلل مخالفيه وبذلك تنتج خلطة من الاستبداد الديني والسياسي هي أشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان وفق ما يصفها عبد الرحمن الكواكبي.

لا يمكن أن تصلح مثل هذه المفاهيم الإكراهية أساساً لنهضة الأمة وخروجها من ظلماتها الروحية والعقلية إلى نور الهداية والسلام، إذ إن هذه المفاهيم تراهن في حكم الناس على الخوف والترهيب واحتكار الخلاص الديني لا على الرحمة والإقناع.

لا تتقدم الأمم إلا في أجواء تسود فيها حرية التفكير وتنتصر فيها الأفكار أو تندحر في ميدان المحاججة بالبرهان وحده دون اعتقاد أي طرف أنه يملك أفضليةً دينيةً أو أخلاقيةً تمنحه حق فرض اجتهاده بالإكراه. لقد آن الأوان لنؤمن بالحرية إيماناً راسخاً يتجاوز عما ستنتجه من أعراض جانبية، وأن نطلق العنان للعقل ليفكر في أي اتجاه يراه وأن نرد على المزاعم والشبهات بالحجة والبرهان، إلا نفعل ذلك فسيكون علينا أن نلبث أحقاباً مديدةً أخرى في كهف غيبوبتنا العقلية و الحضارية.

* كاتب فلسطيني
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع