الإرهاب ومعناه ومداره وكل ما يتعلق به من قريب أو من بعيد هو اليوم سلعة رائجة خاصة في أوروبا وفي الغرب بصورة عامة بعد أن تحول المصطلح إثر ربيع العرب إلى أداة للشيطنة الحضارية ولتعميق جراح العربي المسلم بصورة خاصة. فبقطع النظر عن تحول السرطان الإرهابي إلى تهديد حقيقي لكيان الأمة العربية والإسلامية قبل أن يكون تهديدا لغيرها من الكيانات والدول، فإن السمة المميزة للمصطلح هو أنه رغم كل خطورته لا يملك تعريفا علميا ثابتا.
الأخطر هو أن المصطلح وبكل ما يحمله من دلالات الشيطنة تحوّل اليوم إلى جزء من الحرب المعنوية التي رُصدت لها أموال وميزانيات ضخمة من أجل أن يلتصق المفهوم والمصطلح بالعرب دون غيرهم من الأمم. في هذا السياق كان منتظرا أن تتحرك النخب العربية في سبيل دفع الضرر الذي يصيب الأمة وذلك بتقديم تعريف علمي للإرهاب يخرجه من دائرة التوظيف السياسي إلى دائرة التعريف العلمي الذي يساعد على الحد من الظاهرة وعلى مقاومتها.
في أكثر من منشور سعى الروائي
المغربي الشهير بكتاباته الفرنسية حصريا "
الطاهر بن جلون" إلى الإدلاء بدلوه في سوق التعريف بالإرهاب وأثره على المجتمع والأسرة والدولة. ففي شهر أوت الفارط أصدر عن "دار سوي الفرنسية" كتابا صغير الحجم بعنوان "شرح معنى الإرهاب لأطفالنا" باللغة الفرنسية، كما كتب جملة من المقالات في الصحف المحلية عن الإرهاب والإرهابيين وآخرها مقال بعنوان "خوفا من المرأة" يستعيد فيه السرديات الاستشراقية القديمة عن وضع المرأة عند العرب وانعدام الحرية عند المسلمين.. .وغيرها من الأحكام الجاهزة التي صاغها العقل الاستشراقي الاستعماري منذ أكثر من قرنين من الزمان.
لسنا هنا في معرض الحكم على الخلل الهيكلي في ذهنية النخب العربية المحلية، بل نبحث في الخلل الوظيفي في مخيال المثقف العربي الناطق بلسان أجنبي، "وهو لا يتقن العربية عادة" عند تعامله مع معطيات حساسة، مثل المسائل المتعلقة بالعقيدة، أو تلك المتعلقة بملف سياسي بامتياز هو ملف الإرهاب.
لا يمكن للقارئ أن يغفل بادئ ذي بدء مدى احتقار بعض المثقفين العرب "المستغربين" للغتهم الأم ولحضارتهم وهو أمر لا تجده أبدا عند المثقف الغربي الذي لا يكتب إلا بلغته.
الطاهر بن جلون والمحتفى به فرنسيا يروّج دائما للصورة النمطية عن العرب والمسلمين وهي الصورة التي صاغها العقل الاستعماري وعمل على ترسيخها في ذهن القارئ الغربي بشكل جعلها تصل إلى ذهن الكثير من النخب العربية التي ترى أن شرط الحداثة والتطور والانفتاح والتحضر هو إنكار الذات وذوبان في الآخر الأوروبي المنتصر.
يربط "بن جلون" عمدا بين الجهاد والإرهاب ـ كما هو الحال في الإعلام الفرنسي ـ في كتابه الأخير فيقول "عندما ننخرط في الجهاد فإننا نذهب للحرب باسم الإسلام للقتل وللموت" ص17 حيث يربط بشكل دائم بين الإرهاب والإسلام والجهاد والتكفير دون أن يغادر المربع المعجمي نفسه الذي صاغه الإعلام المعادي للمسلمين من أجل شيطنتهم. هكذا تنقسم الصورة عند بن جلون نصفين : في جزئها المظلم يوجد العرب المسلمون بتخلفهم وجهلهم وتطرفهم وفي الجزء النيّر يوجد الأوروبي بتحضره وعلمه ونبله.
صحيح أن المثقف العربي الناطق بالفرنسية والكاتب بها لا ينال الحظوة التي يريد إلا إذا ساهم في ترويج النظرة الاستشراقية الاستعمارية عن أهله وهي الطريق الأسلم والأسرع للشهرة وللحظوة عند أصحاب القرار. لكن المسؤولية الأدبية والأخلاقية والحضارية توجب على الكاتب التزام الموضوعية في الحكم على قضية هو أول المتضررين منها.
بن جلون مثلا يعرّف الجماهير أو مجموعات المتظاهرين بأن "طبيعتها أن تكون خرساء عمياء" وهو يتجاهل أن هاته الجماهير هي التي أسقطت بوعيها القاعدي البسيط وببصيرتها الثاقبة أعتى الأنظمة الاستبدادية في المنطقة العربية من "بن علي" إلى "القذافي".
ترديد الصورة النمطية لا يقتصر على المخزون الثقافي الغربي عن العرب والمسلمين ـ الذي عبر عنه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد أفضل تعبير في كتابه الاستشراق ـ بل يتجاوز ذلك نحو دول عربية تحولت إلى مرمى سهام الإعلام الغربي والعربي على حد سواء.
المملكة العربية السعودية ودولة قطر يتصدران اليوم قائمة الدول التي تطالها حملات التشويه والشيطنة سواء كان ذلك في الإعلام العربي وخاصة الانقلابي منه بشكل خاص أو الإعلام غربي وهو نفس السياق الذي تتحرك فيه كتابات المفكر المغربي وغيره من الكتاب الداعمين للثورات المضادة ولو بشكل غير معلن.
الإعلام العربي الذي يستهدف دولة قطر مثله مثل الإعلام الغربي إنما يستهدف خطوط إمداد الثورات العربية ويسعى إلى تشويه الدولة الوحيدة التي رفضت الاعتراف بالانقلاب على ثورات الشعوب وخاصة الانقلاب الدامي في مصر.
أما المملكة العربية السعودية فهي تمثل برمزيتها العقائدية ومركزيتها الإسلامية هدفا أمثل لكل من يحاول شيطنة الإسلام والمسلمين. ففي مقاله الأخير يكتب بن جلون : "اليوم يهيمن التيار الوهابي على المملكة العربية السعودية وعلى دولة قطر وعلى الدولة الإسلامية داعش. وهو تيار يطبق الشريعة دون رحمة ويفرض على المرأة ارتداء البرقع وملابس أخرى تغطي كامل الجسد " "مقال خوفا من المرأة ".
الكارثة لا تتمثل فقط في الجمع بين داعش كتنظيم إرهابي وبين دولة قطر والمملكة العربية السعودية باعتبارهما عضوين في الأمم المتحدة بل أعظم الكارثة أن وصف الرجل يتنافى تماما مع كل المعطيات الموضوعية التي تتعلق بالسياق التاريخي والحضاري لمقولة الشريعة أو لفكر الإمام محمد بن عبد الوهاب أو حتى لوضع المرأة في كلا البلدين.
للتذكير فقط قامت سفارة قطر في باريس 28 فبراير 2010 بتكريم الكاتب المغربي وقد ألقى كلمة قال فيها : "يمكن أن نقول إن سياسة الاستثمار في الثقافة التي اختارت قطر أن تساندها قد أخذت تصنع لها مكانة على درجة من الدلالة والقيمة على الأرض" و" إنّ قطر أصبحت تنافس الدول العظمى برعايتها للثقافة واستثمارها في الإنسان".
فجأة، تتحول قطر إلى نظير داعش، وتتحول السعودية إلى بؤرة للإرهاب، وإلى التنكيل بالمرأة، وهي المرأة العربية المسلمة ذاتها التي لا يراها "بن جلون" -ولا غيره من نخب الحداثة الزائفة- وإنْ رآها فإنه يريدها أن تكون فرنسية أو لا تكون.