أودعت حكومة السبسي الثانية المسماة بحكومة "الوحدة الوطنية" مشروع قانون ميزانية سنة 2017 في مجلس نواب الشعب، وأصبح ذلك أول اختبار جدي لهذه الحكومة. هل تريد حكومة السبسي الثانية أن تمثل "الوحدة الوطنية" أم كما سبق أن أشرنا هي مجرد غطاء سياسي لتثبيت سلطة السبسي، والتمرير السلس لسياسات يتم تقريرها في الخارج ويتم عرضها على أساس أنها قرارات وطنية.
للحكم على مدى جدية السلطة، لنبدأ بأول معطى؛ إذ حسب نسخة مشروع قانون الميزانية لسنة 2017 فقد أضاف السبسي إلى ميزانيته منذ وصوله إلى القصر آخر سنة 2014 أكثر من خمسة وعشرين مليار، إذ كانت ميزانية الرئاسة سنة 2015 حوالي 83 مليارا وأصبحت في ميزانية 2017 حوالي 108 مليارا.
للتذكير تراوحت ميزانية الرئاسة زمن الدكتور المرزوقي بين 75 و80 مليارا، والزيادة كانت ناتجة أساسا على زيادة أجور العاملين في مؤسسة الرئاسة الذين يعملون فيها منذ ما قبل الثورة.
بالمناسبة، الذين قادوا حملة التشويه المنظمة ضد المرزوقي في الحملة الانتخابية، والذين اتهموه باستهلاك "عشرة ملايين (سمكة) قاروص"، هل يستهلك السبسي "العجة" و"اللبلابي" في قصر قرطاج؟
سبق أن نبهت في مقال سابق منذ شهر في "عربي 21" إلى أن وثيقة برنامج حكومة السبسي الثانية، موجودة في إطار وثيقة لصندوق النقد مصنفة "Strictly Confidential" تمت كتابتها آخر شهر جويلية وبعنوان "الخلاصات الأولية لمهمة زيارة 12-19 جويلية 2016". بمعنى آخر بمعزل عن مكوناتها وتركيبتها وشخوصها، الحكومة القادمة معنية بتنفيذ هذه المقررات.
وحسب هذه الوثيقة، تشمل إجراءات قبل نهاية هذا العام رفع أسعار الكهرباء وتجميد أي ترقيات ومنح وإجراءات منذ أواخر سنة 2016 وبداية 2017 ومن بينها إعادة التفاوض مع اتحاد الشغل لتجميد أي منح أو ترقيات، والتأخير في سن التقاعد والتقليص من الخدمات التي توفرها الصناديق الاجتماعية، حتى تواجه الدولة المشاكل المالية في ميزانية السنة القادمة، من بينها تبعات الفساد في "البنك الفرنسي
التونسي" (تنصل رجال أعمال يتبعون بن علي من إعادة قروضهم)، التي ستخلق سنة 2017 ثقبا في الميزانية بما يفوق 430 مليار، تضاف إلى بقية الالتزامات المالية. وتشدد الوثيقة على محور "الوظيفة العمومية" بالنسبة "للإصلاحات" التي تشكل خاصة "تجميد" الأجور والانتدابات إلى سنة 2020 بما يفسر تعيين السبسي لمقرب من المنظمة النقابية في وزارة الوظيفة العمومية، ربما لتسهيل هذه القرارات المثيرة للجدل.
وانتبه موقع "نواة" مؤخرا لهذه الوثيقة ونشر سلسلة مقالات حولها، تؤكد أنها المصدر الأساسي لمشروع ميزانية الحكومة. وأشار مثلا في مقال صدر منذ أيام قليلة حول "إصلاح الوظيفة العمومية: "ورقة خبراء صندوق النقد الدوليّ، لم تتأخّر كثيرا حتّى تتحوّل إلى خطّة حكوميّة متكاملة، للضغط على نفقات التصرّف وكتلة الأجور بالأساس. هذا ما ترجمه مشروع قانون المالية لسنة 2017، الذّي استجاب للتوصيات المضمّنة في ملحق “استراتيجيّة هيكلة الوظيفة العموميّة” عبر سنّ عدّة أحكام تتعلّق بنفقات الأجور والانتداب في القطاع العامّ، حيث لم تتجاوز نفقات الأجور لسنة 2017، 13700 مليون دينار مقابل 13121 مليون دينار سنة 2016، أي بنسبة زيادة 4.2 بالمائة".
أول ردود الفعل الغاضبة على مشروع الميزانية، كان موقف الاتحاد العام التونسي للشغل؛ إذ أعلن في بيان بتاريخ 17 أكتوبر ما يلي: "يعبّر عن رفضه المطلق لكلّ الإجراءات التي سبق أن حذّر من اتخاذها، والتي جاءت في مجملها مثقلة لكاهل الأجراء وعموم الشّعب معمّقة للحيف المسلّط عليهم، ومنها تأجيل الزيادات الواردة في اتفاقات والصّادرة في الرّائد الرسمي. ويعتبر أنّ الحكومة بذلك قد خرجت عن وثيقة قرطاج والتفّت على ما تضمّنته من تعهدات والتزامات." وأضاف البيان ما يعتبر مقدمة لموجة رفض شعبية لقرارات الحكومة: "يدعو كلّ الشغّالين في جميع القطاعات إلى التجنّد للدّفاع عن حقوقهم ومنع تحميلهم فشل السياسات المتّبعة وفرض احترام التعهّدات. ويدعو كلّ الهياكل النقابية إلى التعبئة والاستعداد للنضال، من أجل حقوق العمّال بكلّ الطرق المشروعة." بما ينبئ بوضوح بشتاء ساخن، خاصة إذ ا أضفنا الاحتجاجات المنتظرة لقطاعات مهنية أخرى منها المحامون.
لقد عطل السبسي البلاد لأشهر تحت عنوان تشكيل حكومة "وحدة وطنية" هدفها المعلن جلب أهم المنظمات الاجتماعية، خاصة اتحاد الشغل للحكومة. الآن بعد قرار الحكومة مزيد إثقال كاهل الإجراء وهم الذين تحملوا دائما كاهل العبء الضريبي، أصبح من الواضح أن الحكومة في جهة واتحاد الشغل في جهة، قرار الحكومة كان منتظرا إذ هو ترجمة لتعليمات صندوق النقد وكنا نبهنا لذلك مبكرا.
مبادرة السبسي كانت ولاتزال إحكام قبضته على السلطة، من خلال تنصيب المقربين منه وتطويع الدولة ومفاصلها للوبيات التي يمثلها، وتوريط أكثر ما أمكن من الأطراف السياسية وبعض الطامعين لتتحمل المسؤولية معه في الأزمة الاجتماعية المرتقبة.
كل هذا سيزيدنا دفعا نحو تجميع كل القوى الديمقراطية الوطنية ودعم المنظمات الاجتماعية التي تدافع عن الطبقات الضعيفة والمتوسطة، لمواجهة عملية التحيل المتواصلة والفوضى التي يؤسس لها السبسي والطامعون من حوله، والتي ستضرر منها تونس لامحالة. تونس تحتاج فعلا حكومة وحدة وطنية حقيقية، ضد رسم السياسة الاقتصادية من الخارج ولمصلحة بضع فئات ولوبيات لا تعكس المصلحة العامة.
رغم الإنجاز الديمقراطي، فإن الوضع الاقتصادي في تونس يحتاج وقفة خاصة تؤكد المصلحة الوطنية وصياغة سياسات، بناء على خصوصيات الوضع التونسي وبناء على المصلحة العامة، وليس بناء على وصفات جاهزة تقدمها مؤسسة دولية عرفت عموما بتوجهاتها الليبرالية المتطرفة، باعتراف أهم باحثيها في دراسات أخيرة. وعموما لن يستطيع الفقراء الصمت كثيرا في سياقات كهذه.
وقد عرض البنك الدولي في تقرير جديد منتصف شهر أكتوبر أرقام مؤشرات الفقر المدقع والمعتدل في تونس، وأشار مثلا: "لم تنشر تونس إحصاءات رسمية للفقر منذ عام 2010، لكن توقعات البنك الدولي تُظهِر أن معدل الفقر زاد بعد ثورة 2011 قبل أن يعود إلى مستويات ما قبل الثورة في 2012. وفي الفترة 2013-2016، ظلت نسبة التونسيين الذين يعيشون في فقر مدقع أو أقل من 1.9 دولار يوميا ثابتة عند 1.9%، لكن من المحتمل أن تتراجع قليلا إلى 1.5% بحلول عام 2018. وأي نمو اقتصادي يتحقَّق يجب أن يكون مُوزَّعا توزيعا جيدا بين مختلف الأجيال ومناطق البلاد، حتى يساعد على إحداث تراجع أكبر في معدلات الفقر".
واضاف التقرير: "ومما يبعث على الأسف بالنسبة لتونس، أنه على الرغم من أن شبابها يتمتعون بحظ وافر من التعليم، فإن معدلات البطالة مرتفعة، لاسيما بين النساء (22%)، وحديثي التخرُّج من الجامعة (31.2%)، والمنقطعين عن الدراسة والشباب الآخرين (31.8%). ويعدّ تحقيق التكافؤ في الحصول على الفرص الاقتصادية من أولويات الحكومة الجديدة لتونس، كما هو الحال في أنحاء المنطقة، وهذا أمر بالغ الأهمية لاستغلال الإمكانيات الهائلة لشريحة الشباب الكبيرة بين سكان المنطقة، الذين يمكن أن تكون طاقاتهم وإبداعهم قاطرة للنمو".