مثل فوز المرشح الجمهوري في الانتخابات الأمريكية دونالد ترامب مفاجأة كبيرة داخليا وخارجيا، وجاء على عكس رغبة أطراف داخلية وخارجية، وشكل تحديا للمنطقة العربية الغارقة بهمومها الداخلية.
ويأتي هذا الفوز استمرارا للموقف الانعزالي الغربي الذي بدأ في بريطانيا بالتصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي واستمر في أميركا ليعصف بما يسمى النظام الليبرالي هناك، فيما يستمر بتأثيراته على بعض الدول الأوروبية بما فيها الديمقراطيات الكبيرة في ألمانيا وفرنسا.
في النموذجين البريطاني والأمريكي أطلقت العوامل الداخلية هذا التغيير الذي يعد بمثابة انكفاء على الذات. ففي بريطانيا لعب عامل الهجرة بسبب الحروب في المنطقة وانهيار الاتحاد السوفياتي من قبل دورا مهما في انكفاء الشعب البريطاني على نفسه والتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، رغم تعويل كثير من السياسيين على نتيجة مغايرة في التصويت.
وفي أميركا، ورغم القفزات التي حققها الرئيس السابق باراك أوباما على صعيد الاقتصاد، فإنه لم يحقق توازنا كافيا بين الطبقة العاملة التقليدية والمؤسسات ذات البعد الاجتماعي مثل مؤسسات حقوق المرأة، والعناية بالأمريكيين الأفارقة ومن أصول لاتينية وغيرهم، وكان ذلك على حساب الاهتمام بالقضايا الاقتصادية التي تهم قطاعا عريضا من الأمريكيين.
وعادت هذه الأحزاب الانعزالية لتطل برأسها من جديد في أمريكا وأوروبا بعد أن فشلت أحزاب الوسط الحاكمة في هذه البلدان في ترسيخ فكرها "الديمقراطي الليبرالي"، وانغمست في نظام التجارة والاستثمار والشركات متعددة الجنسيات التي أثرت بشكل سلبي على الطبقات الدنيا في المجتمع.
نقطة تحول للنظام العالمي
واعتبر الفيلسوف والأستاذ الجامعي الأمريكي فرانسيس فوكوياما في مقال نشرته صحيفة "ذي فاينانشال تايمز": أن فوز المرشح الجمهوري دوناد ترامب في الانتخابات الأمريكية، "نقطة تحول مفصلية للنظام العالمي"، وليس فقط بالنسبة للسياسة الأمريكية.
وقال إن رئاسة ترامب للولايات المتحدة الأمريكية تدشن عصرا جديدا من القومية الشعبوية، يتعرض فيها النظام الليبرالي الذي أخذ في التشكل منذ خمسينيات القرن العشرين للهجوم من قبل الأغلبيات الديمقراطية الغاضبة والمفعمة بالطاقة والحيوية.
وأوضح الفيلسوف الأمريكي أن النظام العالمي الليبرالي وهو "نظام التجارة والاستثمار الدولي"، لم تصل فوائده لكل الناس، "فالطبقات العاملة في البلدان المتقدمة شهدت اختفاء الوظائف وفرص العمل بسبب نزوع الشركات نحو الاستعانة بالعمالة في أماكن أخرى واللجوء إلى أساليب ترشيد الإنفاق وزيادة الكفاءة في الإنتاج استجابة للتنافس المحموم الذي لا يرحم في السوق العالمية".
ولا يصف هذا الكلام فقط الحالة المتغيرة في بريطانيا وأمريكا فقط، بل في كل العالم الغربي بالإضافة إلى روسيا التي تعيش في ظل هيمنة الرئيس فلاديمير بوتن (الثور الهائج)، والذي يعني بالضرورة أننا أمام نهاية مدوية للنظام العالمي قد تمتد لتشمل دولا رئيسية في الاتحاد الأوروبي.
تراخي قبضة واشنطن على المنطقة
وتجعل هذه التحولات قبضة هذه القوى على المنطقة متراخية إلى حد ما، لا سيما وأن واشنطن ستركز اهتمامها في الصراع مع الصين ومحاولة الحد من النفوذ الروسي في أوروبا الشرقية.
قد لا ترفع واشنطن يديها عن المنطقة، ولكنها ستركز بالأساس داخليا على إصلاحات اقتصادية تطال الفئات المهمشة، وخارجيا لمواجهة الصين تحديدا، فيما يشكل تكرارا لسياسات الرئيس السابق أوباما، لدرجة أن ترامب في أولى تصريحاته قال إنه سيركز على داعش وليس دعم المعارضة السورية لأن ذلك سيدخله في صراع مع روسيا.
وسينعكس ذلك على السعودية ومصر وإسرائيل تحديدا، فالإدارة الأمريكية الجديدة ستستمر في دعم إسرائيل سياسيا وعسكريا ولن تتمكن من ممارسة ضغوط عليها لإنجاز تسوية سياسية، وبالتالي لن تبتدع شيئا جديدا في الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصا وأن العرب غارقون في مشاكلهم الداخلية وفي مقارعة إيران وغيرها من المشاكل التي تدفعهم للتطبيع مع إسرائيل ومحاولة الضغط على الفلسطينيين بإنهاء الصراع مع العدو الإسرائيلي بأقل ثمن ممكن.
وستظل السعودية ومصر تواجهان أزمة اقتصادية طاحنة، فيما يستمران في الخلاف والتناحر في التعامل مع مواضيع المنطقة وأزماتها دون أن يلتفتا إلى التعامل مع الحليف الطبيعي لهما وهو الإسلام السياسي الذي يطارد في مصر ويشاح الوجه عنه في السعودية حتى عندما تخوض حربا ضد إيران في اليمن.
لذلك سيبقى النظام العربي بعيدا عن التوحد لحل أزماته فيما هو ينساق للتحالف مع إسرائيل في مواجهة إيران، ويصر على معاداة الإسلاميين متذرعا بسعيهم للوصول للحكم على أنقاض الأنظمة القائمة.
ورغم التأثير السلبي المتوقع لمعادلة الضعف الأمريكية والأوروبية، فإن ذلك لا يبدو أنه يحفز الحكام لصالح محاولة إيجاد حالة تعايش مع الشعوب وخياراتها لتقديم حالة من الوحدة في مواجهة قضايا الأمة وعلى رأسها الصراع مع العدو الإسرائيلي.
بوصلة فلسطين والمقاومة
ويحتاج أي تغيير إيجابي لإرادة يبدو أنها غير موجودة، في ضوء استمرار التعويل على الإدارات الأميركية للتوسط لحل الصراع مع إسرائيل وهو الموقف الذي تطور مؤخرا بالتوجه نحو إسرائيل لحل قضايانا!
ويلقي هذا الأمر بكاهل المسؤولية على القوى الشعبية وقياداتها العمل على حشر هذه الأنظمة في الزاوية ودفعها لإعادة حساباتها عبر التقدم بالعمل الجماهيري وتطوير مطالب الشعوب بالحرية إلى مطالب لمواجهة الخطر الصهيوني ووضع فلسطين ومقاومة إسرائيل في مقدمة أولويات العمل العربي لا سيما وأن طاقات الشعب الفلسطيني في المقاومة والتي عبرت عنها انتفاضة القدس تشكل مرتكزا يمكن البناء عليه للتحرك العربي!
وتشكل هذه الآلية محاولة لإخراج الأمة من الصراع الطائفي وتوجيه طاقاتها ضد العدو المستفيد الوحيد من الصراع الطائفي في المنطقة، والضغط على إيران لوقف التمدد الطائفي في المنطقة وإعادة صب جهودها نحو العداوة مع إسرائيل.
قد يبدو هذا الأمر صعبا في ظل الاستقطاب الطائفي، ولكنه ليس مستحيلا على الأقل من ناحية بذل الطاقة والجهد فيه ومحاصرة إيران وعزلها إن هي استمرت في برامجها الحالي.
إن استمرار التعويل على الإدارات الأمريكية لحل القضية الفلسطينية يظل منهجا فاشلا لأنه لا يستخدم القوى الذاتية لمواجهة إسرائيل ويعول على أمريكا في زمن انتفت فيه القوة الأمريكية الضاغطة على إسرائيل.