مرت العلاقات بين أنقرة وموسكو بتغيرات جذرية وسريعة خلال فترة قصيرة جدا.
فبعد سنوات من التقارب البطيء الذي نتج عنه تعاون اقتصادي كبير وطلب تركي للانضام إلى منظمة "شنغهاي" للتعاون، أتت حادثة إسقاط المقاتلة الروسية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت لتؤزم العلاقات بين الطرفين وتدفعهما إلى حدود القطيعة الاقتصادية وتخوم الحرب (التي لم يردها أي من الطرفين).
بيد أن رغبة الطرفين بتجاوز الأزمة - بشروط - أدت إلى تحسن متدرج وبطيء في العلاقات، توج بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا برفع معظم القيود التي فرضتها روسيا على تركيا، ونتجت عنه - ولو جزئيا - عملية درع الفرات في شمال سوريا، بالتزامن مع التوتر السائد في علاقات تركيا مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
تحسنت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، وزار مسؤولو الجانبين بعضهم البعض، وسادت تصريحات إيجابية متكررة عن أهمية الحوار والتعاون لحل المشكلات العالقة، ودخلت تركيا في 24 آب/أغسطس الفائت إلى الشمال السوري رفقة مجموعات من الجيش السوري الحر ضمن عملية "درع الفرات"، وتجنبت التصريحات الرسمية التركية في أكثر من مناسبة التعرض لموسكو وألقت - مثلاً - بكامل اللوم على النظام السوري في قصف حلب.
في ذلك الوقت، قلنا إن التقارب التركي - الروسي لا يعني انتفاء الخلافات بينهما واتفاقهما على كل القضايا المختلف عليها، بل يعني أنهما اختارا اللقاء والتحاور والتفاوض وسائل لحل هذه الإشكاليات بدل المواجهة، بينما تبقى قضايا الخلاف و/أو التنافس بينهما أكثر وأعمق وأعقد من التفاهم والاتفاق، وفي المقدمة منها الأزمة السورية (سيما مصير حلب) والتنافس على النفوذ في البحر الأسود وضم شبه جزيرة القرم والتوتر بين روسيا والناتو وغيرها من الملفات.
بيد أن الأيام والأسابيع الماضية، والتي توافق الذكرى السنوية الأولى للأزمة الأكبر بين الجانبين مؤخرا، حملت بعض المتغيرات المهمة على صعيد العلاقة بين الجانبين، وبما يتعلق بالأزمة السورية بشكل مباشر أو غير مباشر.
في الأسبوع الأخير من الشهر المنصرم، قصفت المقاتلات التركية بعض المجموعات الكردية المتجهة من عفرين نحو مدينة الباب، وهو تطور نتج عنه نصب مضادات الطيران التابعة للنظام السوري تهديداً للطائرات التركية. توقفُ الطيران التركي عن التحليق فوق سوريا (وبالتالي تباطؤ عملية درع الفرات) بدءا من 22 تشرين الأول/أكتوبر الفائت عنى أن موسكو لم تستطع - أو بالأحرى لم ترد - أن تقنع النظام السوري بالتراجع عن هذه الخطوة. في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الحالي زار كل من رئيس أركان الجيش خلوصي أكار ورئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان روسيا وكان على رأس قائمة المواضيع التي طرحاها مع نظيريهما الروسيين الأزمة السورية بشكل عام والطلعات الجوية التركية المتوقفة على وجه الخصوص.
ويبدو أن الطرفين قد توصلا لآلية ما لحل الإشكال، فعادت المقاتلات التركية للتحليق فوق سوريا وأعطت زخما لعملية درع الفرات بعد توقف دام 19 يوما (تحديدا في الحادي عشر منه). محمد أجت، الكاتب في موقع خبر 7 المقرب من الحكومة، رد الأمر إلى رغبة موسكو في "إعادة تقييم الموقف مع اقتراب تركيا من مدينة الباب"، واعتبر أن الطرفين قد "توصلا لاتفاق بعد تقديم تركيا ضمانات".
بيد أن الطلعات عادت وتوقفت بعد أربعة أيام بما يشير إلى غياب التفاهم التام حول الأمر، والسبب كما يذكر الكاتب التركي محرم صاري كايا (مدير مكتب صحيفة خبر تورك في أنقرة) هو إصرار الأسد على عدم دخول تركيا مدينة الباب، ودعوة موسكو تركيا "للتفاهم معه حول مصير المدينة". أما وزير الدفاع فكرت إيشيق فقد أنكر وجود مشاكل وأكد أن الطلعات مستمرة، قائلا: "كانت هناك بعض التدابير الروسية وقد زالت، نحن نقدم الآن الدعم الجوي المطلوب للعملية". لكن الوزير لم ينكر الصعوبات التي تواجهها تركيا هناك، معتبراً ان الولايات المتحدة وروسيا أيضاً "لهما أفكار معينة بخصوص الباب" وليس فقط تركيا، ولكن الأخيرة "تحاول حل المسألة على الطاولة وعن طريق الحوار قدر الإمكان".
المتغير الثاني يتعلق بمنظومة الدفاع الجوي/الصاروخي التي تفتقدها تركيا، سيما بعد سحب حلف الناتو منظومة بطاريات باتريوت من أراضيها عام 2015، وهو ما دفع أنقرة لبحث شراء المنظومة من الصين (لرخص السعر وإمكانية الحصول على شيفرات التشغيل) وهو الأمر الذي عارضه الحلف بشدة، قبل أن ترضخ تركيا لضغوطه إثر الأزمة مع روسيا.
اليوم، تعاود أنقرة البحث عن مصادر لهذه المنظومة إلى جانب مساعيها لإنتاجها ذاتيا (وهو أمر سيتطلب سنين طويلة)، وتبدو روسيا ضمن الخيارات المتاحة بالنسبة لأنقرة حيث قدمت لها مقترحاً بشراء منظومة S 400 تجاوبت معه الأخيرة إيجابا حتى الآن، وهو تطور - إن حصل - سيعني الكثير على صعيد خيارات السياسة الخارجية التركية كما على صعيد أمن حلف شمال الأطلسي وتنافسه المحموم مع روسيا.
من جهة أخرى، صرح الرئيس التركي البارحة بأن بلاده تحتاج أن تكون حرة أكثر في قرارها وسياستها الخارجية متحفظا على النقد المستمر من الاتحاد الأوروبي لها، معيدا طرح فكرة انضمام تركيا لمنظمة "شنغهاي" للتعاون كأحد المسارات التي يمكن أن تمنح أنقرة شيئا من التوازن والمرونة.
وللتذكير فإن هذه المنظمة تكونت كـ"خماسية" من الصين وروسيا وقيرغزستان وطاجيكستان وكازخستان عام 1996، قبل أن تعلن رسمياً عام 2001 مع انضمام أوزبكستان إليها، ثم قبلت انضمام كل من الهند وباكستان إليها في قمة طشقند في حزيران/يونيو الفائت. وبالنظر إلى هدف المنظومة المتمثل في "ضمان عدم إخلال التدخلات الخارجية باستقلال الدول المشاركة واستقلالها"، وأسماء الدول المنضوية تحتها، وعدد سكانها الكبير (حوالي نصف سكان العالم)، ونيتها للتوسع أكثر (ثمة حديث عن انضمام وشيك لدول مثل إيران وروسيا البيضاء وأفغانستان)، يمكن بسهولة فهم مرجعيتها ووزنها على الساحة الدولية وموقعها التنافسي مع حلف شمال الأطلسي.
اكتسبت تركيا صفة "شريك للحوار" للمنظمة في نيسان 2013 وتعبر منذ سنوات عن رغبتها في العضوية، لكن أزمة إسقاط المقاتلة - مرة أخرى - أطاحت بخططها هذه وأعادت تموضعها مع حلف الناتو. بيد أن الانقلاب الفاشل وكل ما تضمنه ثم لحق به من تطورات أعاد تركيا للتفكير مجدداً ببوصلة سياستها الخارجية، وهو الأمر الذي دفع اردوغان كما يبدو لتجديد رغبة بلاده في الانضمام للمنظمة.
تحمل هذه الدعوة دلالات استراتيجية بالنسبة لتركيا باعتبار أن المنظمة أمنية بامتياز وتتعارض بشكل واضح مع عضوية أنقرة في الناتو، وبالتالي يرى عدد من الخبراء بأن الأخيرة ستحتاج إلى إعادة النظر في عضويتها في الناتو (تخرج منه؟) قبل قبولها في شنغهاي إن كانت جادة في ذلك.
إذن، في الخلاصة، ثمة توجه تركي استراتيجي في السياسة الخارجية نحو الشرق وابتعاد عن الغرب الذي حسبت عليه ومنه وإن لم تقبل فيه منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، وهناك حسابات وتعارض مصالح بينها وبين روسيا في الأزمة السورية، وهناك وافد جديد على البيت الأبيض لم تتضح بعدُ رؤيته بخصوص العلاقة مع تركيا وروسيا والموقف من قضايا المنطقة وفي مقدمتها سوريا.
يتزامن كل ذلك مع اشتداد القصف على حلب، واقتراح دي مستورا بخصوص الإدارة الذاتية للمعارضة، وبدء معركة الموصل، واقتراب القوات التركية والجيش الحر من الباب، وقرب بدء "غضب الفرات" لتحرير الرقة من داعش ميدانيا (أعلن عنها رسمياً)، إضافة لمفاجأة انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، والتوتر التركي - الأوروبي غير المسبوق، بعد أربعة أشهر كاملة من المحاولة الانقلابية الفاشلة التي ما زالت تؤثر في المشهد التركي عميقاً داخليا وخارجيا على حد سواء.
هذا التزامن وتلك الخطوات المتلاحقة يشيران إلى علاقة ما بين كل هذه الملفات، وهو أمر بديهي بطبيعة الحال، لكن ما زال من الصعوبة بمكان الجزم بالتفاصيل أو بسقوف الاتفاقات المفترضة وحدودها، فضلا عن مآلاتها وفرص نجاحها وانعكاساتها على الأزمة السورية وقضايا المنطقة بشكل عام.