تمر القضية الفلسطينية بمنعطف خطير جرّاء استمرار الانقسام وتعمّقه أفقيًا وعموديًا، واستمرار حالة التيه الناجمة عن وصول الإستراتيجيات المعتمدة إلى طريق مسدود، وفي ظل عدم التحلي بالقناعة والجرأة اللازمتين لاعتماد إستراتيجية جديدة. وزاد من حدة المنعطف أن الفصيلين الكبيرين في الساحة الفلسطينية (فتح وحماس) في مرحلة انتقالية، حيث ستعقد "فتح" مؤتمرها السابع في التاسع والعشرين من هذا الشهر، وستحسم فيه إما بقاء الرئيس محمود عباس وتمديد ولايته كرئيس لها، وما يعنيه ذلك من استمرار حكم عباس ونهجه الذي أوصل الفلسطينيين إلى الوضع الحالي الذي يعيشونه، إضافة إلى قطع الطريق على عودة محمد دحلان بالرغم من ضغوط اللجنة الرباعية العربية، وهذا هو الاحتمال المرجح أو يختار الرئيس تسليم الأمانة وترك المجال أمام رئيس جديد لحركة فتح ما يفتح الطريق أمام فترة انتقالية قصيرة يتم فيها انتخاب رئيس للسلطة والمنظمة وربما يتم توزيع السلطات بحيث يكون هناك رئيس لفتح وآخر للسلطة وثالث للمنظمة.
في المقابل، ستشهد "حماس" انتخابات في بداية العام القادم لاختيار خليفة لخالد مشعل، حيث ستحدد هوية الخليفة وبرنامجه، إلى أين يمكن أن تسير "حماس": إلى المزيد من تغليب كونها جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية على كونها امتدادًا لحركة الإخوان المسلمين، أم نحو التطرّف والتكفير؟
وما يزيد الوضع سوءًا على سوئه أن الأوضاع العربية في أسوأ حال، بينما الإقليم والعالم منشغلان عن القضية الفلسطينية بقضايا وأولويات أخرى.
وما يزيد الطين بلة انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، الذي رأى في رسالة له لإسرائيل بعد انتخابه أنها شعلة الأمل والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وكان قد دعا أثناء حملته الانتخابية إلى نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ويرى أن الحل يكمن في مفاوضات ثنائية من دون تدخل من أحد، وأنّ الاستيطان مشروع وليس عقبة في وجه السلام، عدا عن أنه لا يؤيد قيام دولة فلسطينية "إرهابية".
هذا التغيير في قيادة أقوى دولة في العالم في أدنى الاحتمالات يعطى ضوءًا أخضر للحكومة الإسرائيلية المغرقة في التطرّف لتفعل ما تشاء، في ظل دخول إسرائيل ما يطلق عليه"الجمهورية الثالثة" التي بدأت في العام 2009 بعد سيطرة اليمين واليمين الديني المتطرف، الذي عاد لاعتماد خطة إقامة "إسرائيل الكبرى" من خلال الضم الزاحف من دون إعلان رسمي، ويتضح ذلك من وصول عدد المستوطنين في الضفة الفلسطينية إلى حوالي800 ألف مستوطن، أكثر من 350 ألفًا منهم في القدس الشرقية، وسط مخططات معلنة لرفع العدد إلى مليون مستوطن خلال سنوات قليلة.
يتوقف الكثير على ما سيحدث في مؤتمر "فتح". هل سيسعى الرئيس إلى أن يكون المؤتمر خيمة تتسع لكل زعامات ومعسكرات "فتح"، أم سيمضي في سياسة تصفية الحساب الذي بدأها مع دحلان، ويمكن أن يواصلها لتطال آخرين،وعندها يمكن أن تشهد "فتح" انقسامًا عموديًا لم يسبق له مثيل، أم يكتفي بإقصاء دحلان ومجموعته ويرضي القيادات الأخرى من خلال حفظ مقاعد لهم في اللجنة المركزية والمجلس الثوري؟
هل سينتخب مؤتمر "فتح" نائبًا للرئيس أم لا؟ هذا سؤال مهم. ومن هو؟ هذا هو الأهم، لأن الرئيس إذا اختار شخصية ليست على مستوى المنصب وغير قادرة على الحلول محله في حال غيابه فيكون وكأنه لم يحل شيئًا، بل فاقم الموقف وجعله أكثر سوءًا. وهل سيتم البحث في توزيع مهمات الرئيس بعد عهده، بحيث يكون هنا كرئيس لفتح وآخر للسلطة وثالث للمنظمة؟ إن هذا الإجراء من دون أن يكون جزءًا من نهضة من شأنها تقوية المؤسسة على حساب الأشخاص، ومن دون رؤية وإستراتيجية جديدتين؛ سيكون قفزة في المجهول، ويمكن أن يؤدي إلى شرذمة مراكز القوة إلى أشخاص عدة، وهذا من شأنه تفتيت السلطة.
إن أسوأ ما يحدث هو ترك البرنامج السياسي، المفترض أن يكون أساس المؤتمر، للجنة وضعته لوحدها من دون نقاش عام في مؤتمرات الأقاليم و دون أن يكون محل حوار عميق، بحيث يستهدف دراسة التجربة الماضية، وخصوصًا منذ عقد "اتفاق أوسلو" وحتى الآن، واستخلاص الدروس والعبر. فما قيمة المؤتمرات إذا لم يكن محورها البحث في وضع القضية الوطنية وكيف يمكن إنقاذها وفي أين نقف وإلى أين نريد أن نصل وكيف نحقق ما نريد؟ فمن دون ذلك يكون المؤتمر مجرد صراع على الحصص والمكاسب على أرضية إعادة إنتاج النهج السياسي نفسه، حتى لو تضمن البيان الختامي الصادر عن المؤتمر عبارات شديدة اللهجة تتكرر منذ سنوات بدون أن تنفذ تتحدث عن ضرورة تحديد العلاقة مع الاحتلال بوصفها علاقة مع احتلال وليس شريك سلام، ووقف التنسيق الأمني، وأن الاعتراف بإسرائيل لن يبقى مجانيًا، وأن الفلسطينيين لن يبقوا في هذا الوضع إلى الأبد. كل هذه العبارات جوفاء وللاستهلاك الشعبي ما لم تكن نابعة من قناعة عميقة بضرورة تغيير المسار المتبع منذ أوسلو وحتى الآن، ومن إرادة سياسية لتوفير متطلبات المسار الجديد.
المحك الأول والأهم للحكم على جدية القيادة الفلسطينية للتغيير يتمثل في موقفها وتعاملها مع ملف الانقسام، وهل ستبقى في دائرة اللوم واللوم المتبادل المتغطي على الموقف الانقسامي للطرفين، فكل طرف يحرص على أن يكون إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة ضمن شروطه وتحت قيادته؟ حتى الآن لا يبدي الرئيس الحد الأدنى من متطلبات إنجاحا لجهود الرامية لإنهاء الانقسام، بل يتجه نحو خطوة من شأنها تعميقه وهي الدعوة إلى عقد المجلس الوطني القديم من دون تشاور ولا تشكيل لجنة تحضيرية حتى مع شركائه في منظمة التحرير، إذ أعلن أن المجلس الوطني سيعقد بعد شهر من مؤتمر "فتح"، في حين استمع الجميع لهذا الإعلان من وسائل الإعلام.
إن المضي في تطبيق هذه الدعوة بدون مشاركة بقية الفصائل داخل المنظمة وخارجها وبدون توسيع التمثيل في المجلس الوطني بحيث يتسع للشباب والمرأة وممثلي مؤسسات المجتمع المدني والمرأة و في ظل تردي العلاقات الفلسطينية مع أطراف الرباعية العربية سيعني عقد مجلس وطني بمن حضر، وهذا لن يشكل حلًا، وإنما العودة إلى مربع الأزمة وتحويل المنظمة إلى فريق وطرف وليست الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني كما كانت وكما بجب أن تكون.
البديل واضح. يبدأ بالقناعة العميقة بان الوحدة الوطنية على أساس القواسم المشتركة وتنظيم إدارة الخلافات ضرورة وطنية وليس مجرد خيار من الخيارات وبدونها لا يمكن إنجاز أي شيء لصالح الفلسطينيين سلما أو حربا وبالشروع بحوار وطني شامل لبلورة رؤية شاملة تقوم باستعادة مكانة القضية كقضية تحرر وطني واعدة تعريف المشروع الوطني ووضع إستراتيجية جديدة، تقوم على إغلاق طريق العودة إلى المفاوضات الثنائية برعاية أميركية أو دولية شكلية، وعلى قناعة مفادها تعذر تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية من دون العمل الجاد والمثابر لتغيير موازين القوى بشكل جوهري، وإلى حد جعل إسرائيل تدفع ثمنًا باهظًا لسياستها العدوانية والعنصرية ولاحتلالها، بحيث يتحول إلى احتلال خاسر وليس احتلالًا رابحًا كما هو الآن، ثم إعادة بناء منظمة التحرير (وليس إصلاحها لأن الإصلاح لا يكفي وغير ممكن) لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي على أسس وطنية وديمقراطية توافقية ومشاركة حقيقية، وبعد ذلك يتم إعادة النظر في شكل السلطة وطبيعتها ووظائفها والتزاماتها لتكون سلطة خدمية، والتخلص من أوسلو بشكل تدرجي، ونقل المهمات السياسية للمنظمة ونقلها من واقعها كوكيل دائم للاحتلال وتكريس الحكم الذاتي لتكون رافعة مؤقتة للكفاح من أجل إنهاء الاحتلال.