إذا كانت الثورة عملية تدفع باتجاه التغيير النوعي في حركة التاريخ إلى الأمام، كما تقول بعض الأدبيات الماركسية، فإننا بالتأكيد نعيش حالة أكبر من الثورة، وإذا كان تعريف الثورة لا يتعلق بالطبيعة الطبقية أو الإيديولوجية أو السياسية للقائمين عليها، فإننا أيضًا في حالة أكبر من الثورة.
وإذا كان النّجاح ليس شرطًا في تعريف الثورة، وقد أُطلق وصف الثورة على ثورات لم يُكتب لها النجاح، مثل كومونة باريس عام 1871، وثورة عام 1905 في روسيا، وثورة دوبلن في إيرلندا عام 1961؛ وإذا كانت تلك الثورات قد اكتسبت وصف الثورة من الجماهير التي حملت السلاح، واصطدمت بالقوى المناوئة للثورة؛ فإننا في حالة أكبر من ثورة.
إننا لا نعيش انتفاضة موضعية، وإنما حركة تاريخية كبرى استغرقت المجال العربي كلّه، بنسب وصور متفاوتة، ولكنها منتظمة في سياق التحوّل الكبير، وقد جاءت في ظرف إقليمي ودولي يتسم بدوره بالغموض، والتحول والسيولة، وتراجع قوى الهيمنة والسيطرة التقليدية في العالم، إن مؤسسات الحكم العريقة في القوى الكبرى، أو تراجع هيمنة القوى الكبرى على العالم، أو تراجع هيمنة الأنظمة في البلاد العربية.
إنّها أكبر من ثورة في جغرافيّتها، وهي أكبر من ثورة بانتقال الجماهير المسحوقة والعاديّة إلى موقع الفاعل، وأكبر من ثورة بتعداد وتنوع تلك الجماهير، التي تمنح حركتها بتنوعها وتناقضاتها وحسناتها وعيوبها ومثالبها صفة النّاس كما هم، بلا رتوش ولا أوهام، إنهم الناس كما هم، ينعكسون بشرا على حركتهم لا ملائكة، ويكشفون عن كل عقد أمتهم التاريخية المتجسدة فيهم تناقضات واستعصاء وارتباكًا وتوترا.
إنّ أمة بهذا الحجم، وبهذا التاريخ، وبهذا القدر الهائل من المشكلات العميقة، لا يمكن أن تكون ثورتها التي تحدث تغييرًا نوعيًّا في حركة التاريخ إلى الأمام؛ إلا بهذا الشكل، من الفوضى والإخفاق وطول الزمن والتناقضات والصراعات، ولكنها وقد مضى عليها ست سنوات، فإنها لم تفشل، حتى لو توترت حركتها بين التقدم والتراجع، والنجاح والإخفاق.
والجماهير المسحوقة، الملقاة إلى ما خلف هامش الفعل طوال العقود الماضية من عمر هذه الأمّة، لا بدّ وأن يطول عهدها وهي تستكشف نفسها، وتضرب خيرها بشرها، ولا بدّ وبعد ذلك أن تراوح ما بين الإرادة وقلّة الحيلة وهي تواجه العالم القديم كلّه، بكل قدراته وجبروته.
إنّها حركة كبرى، وليست هبّة عابرة، وحركة بهذا القدر والحجم والعمق والتواصل والاستمرار التاريخي، لا تنتهي بانتكاسة أو هزيمة، فإنها لا شك سوف تتعرض لمئات الهزائم القاسية، وسوف تقترف هي نفسها أيضًا مئات الخطايا البشعة، ولكن كل ذلك طبائع بدهية في هذا النوع من الحركات التاريخية الكبرى، والتي سوف تستمر في إحداث التغيير النوعي مهما طال الزمن، وتكاثرت الهزائم في الطريق الدامي الطويل.
الذي ينحاز لهذه النوع من الحركات الكبرى يصعد على الشجرة بالضرورة، ولا ينظر للأسفل، ولا يتعامل مع الفريق المقابل بمشاعر الفوز والخسارة، وبخطاب النكاية والمكايدة حين التقدم، أو خطاب الحرج والضيق حين التراجع، إنها باختصار ليست لعبة كرة قدم!
فالمنحاز لهذه الحركات لم يكن يبحث في الأساس عن الطرف الفائز لكي ينحاز إليه، وإنما كان ينحاز للطرف الذي سيدفع الثمن الأكبر، والذي سيمنى بالخسائر الأكثر في الطريق الطول، لأنه الطرف الذي يصارع العالم القديم كله، ويعرّي ضميره الخرب.
المنحاز لهذه الحركات التاريخية الكبرى، يختلف نوعيّا عن جمهور الثورات المضادة المتصف بالسفاهة والطيش والخفّة، لأنه –أي جمهور الثورات المضادة- في الأساس يفتقر إلى الإحساس بالظلم الواقع على الآخرين، ولا يتمتع بالمسؤولية الأخلاقية، وتربطه علاقة بهيمية وغرائزية بسادته المتبوعين، ولكن الثائر على كل ما فيه من مثالب، إذ هو ليس ملاكًا، أكثر إدراكًا لطبيعة الصراع وعمقه، وما يحتاجه من مسؤولية أخلاقية.
والمسألة ليست مجرد قيام بالواجب، وإنما هو إيمان عميق بأثر الفعل في حركة التاريخ، فما التغيرات النوعية في حركة التاريخ إلا حصيلة تراكم الفعل البشري الممتد في الزمان والمكان، وحقائق الاجتماع الإنساني هي حصيلة التدافع البشري، وقد ظلّ الأنبياء يصطفون لبنات في البيت الذي تمّمه محمد، صلى الله عليه وسلم، وجعلهم الله على تباعد أزمانهم واختلاف أقوامهم أمّة واحدة، وهكذا هو الفعل في سياق الثورة مراكمة على طريق التغيير، وإيمان بأن الله "لا يصلح عمل المفسدين".