كان أعداء الديمقراطية والإرادة الشعبية في تركيا يرون أن مؤسسات الدولة، مثل القضاء العالي والجيش ورئاسة الجمهورية وغيرها، فوق الإرادة الشعبية، ويروِّجون بأن خضوع إحدى تلك المؤسسات لخيار الشعب يؤدي إلى خلل في التناغم بين المؤسسات.
هذا كان مبررهم عندما رفضوا ترشيح عبد الله غول لرئاسة الجمهورية من قبل حزب العدالة والتنمية، وقالوا إن انتخاب غول رئيسا للجمهورية ووصوله إلى القصر الرئاسي غير مقبول، لأنه سيعني سيطرة الإرادة الشعبية على رئاسة الجمهورية التي يجب أن تبقى مع المؤسسات الأخرى فوق تلك الإرادة.
على الرغم من تهديدات القوى العلمانية المتسلطة، لم يتخلَّ حزب العدالة والتنمية آنذاك عن ترشيح عبد الله غول لرئاسة الجمهورية، وتم انتخاب غول رئيسا للجمهورية خلفا لأحمد نجدت سيزر. وكانت أيامه الأولى في القصر الرئاسي شهدت مواقف تعبر عن استياء تلك القوى من وصول غول إلى ذلك المنصب الذي كان العلمانيون المتطرفون يعتبرونه ضمان النظام العلماني وقلعة الأتاتوركية، إلا أن الجميع تعود لهذا الوضع الجديد مع مرور الأيام والأشهر.
لم تعد ورقة "التناغم بين المؤسسات" صالحة للاستعمال، بعد ما تبين أن انتخاب أمثال عبد الله غول ورجب طيب أردوغان رئيسا للجمهورية، كنتيجة لتجلي الإرادة الشعبية، لا يفسد ذاك التناغم. ووجدت ذات القوى لنفسها ورقة أخرى، وبدأت تردد أن هناك اصطفافا حادا في المجتمع، وأن الحكومة يجب أن تتراجع عن بعض سياساتها أو أن تتخلى عن ترشيح فلان أو علان لإنهاء هذا الاصطفاف وإزالة التوتر الذي يهدد السلم الأهلي والأمن الاجتماعي. ويقدمون أحداث منفردة وربما مفتعلة تحدث هنا أو هناك كدليل لوجود ذاك "الاصطفاف الخطير".
شركة غنار للدراسات أجرت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة استطلاعين للرأي حول الاصطفاف في المجتمع وآثار محاولة الانقلاب. وذكر رئيس الشركة، إحسان آقطاش، في مقاله المنشور بصحيفة ستار التركية، أرقاما من نتائح هاذين الاستطلاعين لتسليط الضوء على حقيقة ما يقال حول وجود اصطفاف حاد في المجتمع التركي.
وفقا لتلك النتائج، يمكن تقسيم المجتمع التركي إلى مجموعتين رئيسيتين: الأولى نسبتها في المجتمع التركي 75.4 بالمائة ويشكلها المحافظون المتدينون، والثانية نسبتها 24.6 بالمائة ويشكلها الأتاتوركيون والديمقراطيون والقوميون العلمانيون. ويصوت لصالح حزب العدالة والتنمية 67.4 بالمائة من الناخبين المصنفين ضمن المجموعة الأولى و8.2 بالمائة من الناخبين المصنفين ضمن المجموعة الثانية.
حزب الحركة القومية برئاسة دولت باهاتشلي يحصل على 13.8 بالمائة من أصوات المجموعة أولى و11.8 من أصوات المجموعة الثانية، فيما يحصل حزب الشعب الجمهوري برئاسة كمال كيليتشدار أوغلو على 76.6 بالمائة من أصوات المحموعة الثانية. أما نصيب حزب كيليتشدار أوغلو من أصوات المجموعة الأولى يكاد ينعدم.
حزب الشعوب الديمقراطي برئاسة صلاح الدين دميرطاش، من ثمار تحالف الانفصاليين الأكراد الموالين لحزب العمال الكردستاني مع الأحزاب اليسارية المتطرفة. ولا يمكن تصنيفه في الخارطة السياسية ضمن الأحزاب اليمينية المحافطة. ومع ذلك، يحصل حزب الشعوب الديمقراطي على 10 بالمائة من أصوات المجموعة الأولى، أي من المحافظين المتدينين، فيما يحصل على 3.3 بالمائة فقط من أصوات المجموعة الثانية.
وفي تعليقه على هذه النتائح، يلفت آقطاش إلى أن جميع الأحزاب المتمثلة في البرلمان التركي يحصل على نسب متفاوتة من أصوات الناخبين، سواء من المنتمين إلى المجموعة الأولى أو إلى المجموعة الثانية، باستثناء حزب الشعب الجمهوري، ما يؤكد أن المؤيدين لأي واحد من تلك الأحزاب الثلاثة ليسوا من لون واحد.
هذا القدر من الانقسام السياسي في أي مجتمع ديمقراطي ظاهرة طبيعية، ولا يعني وجود اصطفاف حاد قد يؤدي إلى اصطدام واقتتال داخلي. ومهما شهدت البلاد في السنوات الأخيرة محاولات حثيثة لإثارة نعرات بهدف تقسيم المجتمع إلى مجموعات متقاتلة، إلا أن الأغلبية الساحقة في المجتمع التركي لا تلتفت لتلك النعرات المتطرفة.
* كاتب تركي