بتجارب السنين وخبرة العمل الإسلامي الطويل، وبواقع المراجعات الفكرية التي قلبت الموازين من العنف إلى السلم، ومن التطرف إلى الاعتدال، ومن المعتقلات والسجون إلى الحرية، حرية الفكر والعمل والحياة، من تأخر اقتصادي في السياحة والتجارة إلى تقدم اقتصادي واستقرار اجتماعي، قلبت موازين الحياة في مصر والناس مرت بذلك، والعقول تابعت هذا، وأهل الاقتصاد شعروا بها، ولكن لم يلتفت أحد إلى تلك الجنود المجهولة التي حملت أكفانها على ذراعيها من أجل مصر.
أجلس الآن، وأتذكر ذلك كله فأنظر إلى الحال الآن وإلى الواقع الأليم المرير الذي نراه، أستيقظ كل يوم على دماء قد سقطت، وكل فريق يبكي على الدماء التي سقطت منه ولم يبكوا على أنها دماء مصرية، فتعامل الجميع على أنهم فرقاء؛ كل فريق يزعم أنه يحب مصر ويسعى لرفعتها (وكل يدّعي وصلا بليلى... وليلى لا تقر لهم بذلك) فخرجت لأنظر من خارج الصندوق إلى تلك المشاهد المتناقضة، وإلى تلك الصور المقطعة لعلي أجمع صورة واحدة توضح حقيقة المشهد الذي نعيشه ونحياه.
من المتضرر؟ ومن المستفيد؟ ومن الظالم؟ ومن المظلوم؟ ومن الذي يريد المصالحة بصدق وإخلاص؟ ومن الذي يبتغي وأدها من أجل تقرب زائف أو منصب زائل أو نفاق ظاهر أو ظهور إعلامي فاشل؟ فهل نترك الأمور هكذا؟ حتى نقف نصفق في النهاية على ركام وأشلاء وطن قد تمزق وتهدم؛ لا والله إنها لنقطة فارقة ولحظة حاسمة تنطلق من خلالها العبارات وتلوح منها الإشارات.
نقول لمن يغلب عليه حلم سياسي ومجد دنيوي أو منصب رسمي مقدما ذلك على وطنه ودولته، أقولها له هل سيفرح أي هؤلاء وأولئك بينما نرى الأرامل في الطرقات؟ أو اليتامى في الشوارع والأزقة والحارات؟ أو نرى الفقر قد دب في البلاد؟ أو نرى الأزمات تترى والمشروعات تفشل والاقتصاد يتهوى ويتحطم؟
فلنتحر النية أولا، ثم ينبغي أن نحرر العمل حتى نقدم مصلحة الأوطان على كل المصالح الخاصة والأهواء، ونقدم مصلحة البلاد على مصلحة المناصب والجاه والأحزاب، فحب الوطن من الإيمان، هكذا تعلمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "أما والله لا يدعوني اليوم إلى خُطّةٍ، يعظّمون فيها حُرمة، ولا يدعوني فيها إلى صلة إلا أجبتهم إليها"، وما خُير النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن "الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير"؛ فكونوا دعاة رحمة لا دعاة عذاب، كونوا حكام عدل لا حكام جور، فالله يبارك في الممالك الكافرة العادلة، ولا يبارك في الممالك المسلمة الظالمة.
وللحديث بقية