لقد آذن الربيع العربي بحلول مرحلة جديدة تعيشها مجتمعاتنا العربية والإسلامية وإن باغتته بعض العواصف وأفسدت جماله.
إن جمالية الربيع العربي في بداياته تمثلت في أبعاده الوطنية والديمقراطية المتخففة من حمولات الأيديولوجيا والعصبيات. مما وحد القوى السياسية والمجتمعية ضد الأنظمة الاستبدادية تحت رايات وطنية جامعة كان بإمكانها أن تتحول إلى أرضية سياسية يجتمع حولها الفرقاء لتأسيس جمهوريات عادلة ومتطورة.
ماذا تحتاج شعوب الربيع؟
استطاعت أنظمة الاستبداد السياسي والقهر المجتمعي أن تصيب شعوبا بأمراض عدة لصالح بقاء هذه الأنظمة وديمومتها ولو بأشكال وتفاصيل مختلفة.
أهم ما يمكن أن نلاحظه في الشعوب العربية من رواسب الاستبداد هو الاضطراب المعياري واللاتوازن الإنساني الذي حول الفرد من فاعل اجتماعي وكائن ديناميكي حيوي إلى عنصر سلبي حسا وإحساسا. كما يمكن ملاحظة أن هذا الجسم العربي تطبع بالجمود والكسل إلى جانب الاستهلاكية المشطة.
كل هذا أفقد شعوبنا العربية توازنها وجزء من كينونتها الأصيلة المرتبطة بالمسألة الهووية والوطنية. فلا غرابة أن تجد مجموعات بشرية وسط هذا المحيط تقدم طعامها على حريتها أو تبحث عن استقرار موهوم يخفي خلفه استبدادية الأنظمة.
وتبقى أعظم إشكاليات الشعوب العربية في نخبها، حتى بعد الربيع العربي، حيث تعاملت هذه النخب (باختلافها) مع الشعوب بما تراه وتريده النخب وليس كما يراه ويريده الشعب.
فتعمقت الهوة من جديد بين الطرفين رغم مساعي كل عائلة داخل هذه النخب للحديث باسم الشعب.
هل تفضل الشعوب العربية "العلمانية" على كيلوغرام من الفلفل بأسعار معقولة؟
هل تفضل هذه الشعوب "الإسلاميين" على أمنها واستقرارها؟
هل تفضل هذه الشعوب "صراع الحداثة والأصالة" على مشاهدة مباراة كرة قدم بين البرسا والريال في أجواء مستقرة؟
كان يجدر بالنخب العربية أن تدرك حقول فعلها وتحركها قبل أن تسوق لمنتجات فكرية وسياسية لا تراها الشعوب ضمن قائمة أولوياتها.
لقد نجحت أنظمة الفساد التابعة لشبكات المصالح الدولية في تشكيل عقل عربي يفكر بشكل فرداني ومصلحي براغماتي (في المعنى السلبي للبراغماتية) في حين تفكر جل النخب العربية بعقول شمولية كليانية يجعلها ثقيلة في حركة الوعي والممارسة.
وكلاهما يتعارض مع الآخر تماما....
دول الربيع التي تبحث عنها الشعوب
لن يكون الربيع ربيعا إلا إذا عمت خيراته ونسماته كافة الشعوب العربية وقطف أزهاره عامة الناس دون أن تخزهم أشواك سامة تجبرهم على رمي الأزهار رغم جمالها وعذوبة رائحتها المنبعثة من العمق.
كان على دول الربيع ولا يزال أن تكون دول الجميع دون استثناء ودون تصنيف أو إقصاء لدين أو لعرق أو لحزب.
فهي دول المصالحة الوطنية القائمة على العدل والوحدة المجتمعية والنمو الاقتصادي والتطور التنموي التي يتوحد جميع أفرادها لنجاحها واستقرارها وليست دول الثأر والصراعات القبلية والعرقية والأيديولوجية التي تحول من الأوطان حقل ألغام يروح ضحيته أبناء الشعب.
على دول الربيع أو ما تبقى منها أن ترعى وتدير مصالح الناس وتحقق العدل والرخاء وليست مطالبة بعلمنة الشعوب أو أسلمتها خاصة، إذا كانت قضايا الهوية قد حسمت منذ عقود في ضمائر الناس واختلطت بعوائدهم ومألوفاتهم.
إن كل هذا يتطلب ويدفع أيضا نحو شراكة وطنية حقيقية بأيادي طبقة سياسية جديدة تقدم الشعب على الحزب وتحمل برامج خدماتية نفعية تنقذ الشعوب من آفتي الفقر والجهل ...
* رئيس منتدى الفكر السياسي والاقتصادي