تتميز انتخابات نقابة الصحفيين في مصر بكونها مؤشرا على تغييرات مزاج النخبة المصرية بناء على تطورات الظرف والمناخ العام، وبطبيعة الحال لا يمكننا تجاهل التدخل الرسمي في توجيه هذا المزاج أحيانا عبر تقديم بعض الإغراءات المالية أو العينية الأخرى لمرشح أو مرشحين بأعينهم، أو الضغط على آخرين، بهدف السيطرة على مقاليد القرار في النقابة أو على الأقل عدم السماح بخروجها كثيرا عن الخط الرسمي.
وتأتي الانتخابات المقرر لها يوم الجمعة المقبل 2 مارس/ آذار ضمن هذا السياق، فالمعركة تبدو ساخنة بين فريقين يقترب أحدهما أكثر من السلطة الحاكمة ويقدم نفسه باعتباره جسرا للتواصل معها، وقادرا على إنهاء أزمة النقابة معها، واستعادة النقابة ممن ساروا بها في طريق التأزيم مع السلطة الحاكمة، في إشارة إلى احتضان سلالم النقابة لمظاهرات مناهضة للتنازل عن جزيرتيي تيران وصنافير للسعودية، واحتضان النقابة لصحفيين لاذا بها هربا من ملاحقة الشرطة، وما تلا ذلك من إقتحام الشرطة لها لأول مرة في تاريخها، ومن ثم تقديم نقيبها ووكيلها وسكرتيرها العام للمحاكمة، والحكم عليهم بالحبس عامين، وهو الحكم الذي لايزال في درجته الأولى وينتظر قرارا نهائيا من محكمة الاستئناف التي نظرت القضية يوم أمس السبت وقررت تأجيل الحكم إلى جلسة 25 مارس أي عقب انتهاء الانتخابات النقابية، وهنا يرجح الكثيرون أن الحكم سيأخذ بعين الإعتبار نتيجة الانتخابات فإن فاز النقيب الحالي يحيي قلاش المتهم بإيواء ملاحقين أمنيا فإن الحكم ربما يقتصر على غرامة مالية، وإن خسر الانتخابات فربما يصبح الحكم تأييد الحبس لسنتين، وإن كانت هناك آراء تذهب في اتجاه مغاير.
لا يمكننا تأكيد النزاهة الكاملة للانتخابات هذه المرة كما المرة الماضية ذلك أنها تأتي في ظل سلطة انقلاب عسكري أعادت هندسة الحياة المدنية، حيث أبقت فقط على المعترفين بها بينما أبعدت قسرا مناهضيها سواء عبر القتل أو السجن أو التهجير أو المطاردة، ولذلك فإن هذه الانتخابات كسابقتها خلت لأول مرة منذ زمن طويل من ترشح صحفيين منتمين للإخوان المسلمين، وهم الذين حافظوا على حضور معقول في الدورات الماضية، وكان لهم منصب النقيب مرتين عقب ثورة يناير أولاهما عبر تصعيد داخلي جرى بموجبه تكليف صلاح عبد المقصود وكيل النقابة بمنصب النقيب عقب الثورة مباشرة وعقب طرد النقيب السابق رجل مبارك الصحفي مكرم محمد أحمد من النقابة، والمرة الثانية بانتخاب ممدوح الولي القريب من الإخوان للمنصب في أول انتخابات نقابية بعد الثورة، كما كان لهم حضور معقول في مجالس النقابة السابقة، لكنهم غيبوا تماما في هذه الانتخابات، وحتى المرشح الوحيد الذي ينتمي لهم حسن القباني الذي تقدم للترشيح من داخل محبسه الإحتياطي تم حرمانه من استكمال المعركة بعد رفض لجنة الانتخابات اعتماد أوراق ترشحه التي قدمها وكيله القانوني بحجة واهية وهي ضرورة توقيعه شخصيا عليها، وهو مالم يتم في حالات سابقة.
هذا الموقف السخيف من ترشح صحفي محبوس احتياطيا في قضية رأي -كان من المفترض بنقابته أن تكون بجواره فيها- هو انعكاس طبيعي لحالة قمع الحريات العامة وعلى رأسها حرية الصحافة، والتي وصلت إلى حد اقتحام النقابة وحبس حوالي مائة صحفي، والحكم بحبس النقيب وزميليه، وإغلاق العديد من الصحف والقنوات والبرامج بما فيها بعض الموالية للنظام ذاته، وللأسف فقد شاركت نقابة الصحفيين ذاتها من خلال إداراتها المنتخبة سواء قبيل أو عقب الانقلاب العسكري في شرعنة وتبرير هذا القمع لحرية الصحافة، حيث حولت تلك الإدارات النقابة إلى مقر لاجتماعات كثيرة لجبهة الإنقاذ وغيرها من الحركات المناوئة لأول تجربة ديمقراطية عقب ثورة يناير، وكان مجلس نقابة الصحفيين برئاسة ضياء رشوان هو المجلس النقابي الوحيد الذي بادر بزيارة "الرئيس المؤقت عدلي منصور" لتهنئته ومبايعته وهو الذي كان أول نتائج الانقلاب على الديمقراطية والحرية، وظلت إدارة النقابة حريصة على تقديم الدعم للسلطة التي تنتهك حرية الصحافة والتي قتلت وحبست العشرات من الصحفيين وأغلقت العديد من الصحف والقنوات، وبررت ذلك بأنه مجرد إجراءات احترازية مؤقتة، وكان هذا السكوت أو التبرير دافعا للسلطة نحو المزيد من قمع حرية الصحافة حتى طالت النقيب نفسه، والنقابة ذاتها، ليؤكل الجميع يوم أكل الثور البيض!!
ورغم أن غالبية الصحفيين كانت داعمة أو صامتة عن فظاعات سلطة الإنقلاب في عاميها الأولين إلا أن الصورة تغيرت تدريجيا، وعادت الروح المعارضة تدب في جنبات النقابة، وكان أبرز مظاهرها في الجمعية العمومية الطارئة التي تداعت للانعقاد عقب اقتحام النقابة مطلع مايو 2016، والتي أصدرت العديد من القرارات والتوصيات الغاضبة جدا، والتي لم تجد من يسهر على تنفيذها، بل تبعها عملية تبريد من النقيب ومجلس نقابته بحجة تجنب المواجهة مع السلطة، كما كان من مظاهر تصاعد الغضب الصحفي هو التصويت لصالح المرشح يحيي قلاش والذي فاز بفارق حوالي ألف صوت عن منافسه وابن تياره السياسي الناصري ضياء رشوان قبل سنتين وذلك -فقط - لتبني قلاش أجندة داعمة للحريات ومنها المطالبة بالإفراج عن الصحفيين السجناء، كما شهدت النقابة قبل شهرين مؤتمرا حاشدا وغاضبا عقب صدور حكم الحبس بحق النقيب وزميليه، ومن المتوقع أن تشهد الانتخابات الحالية ترجمة جديدة لهذا الغضب المتصاعد في التصويت لموقع النقيب ولأعضاء المجلس.
تدور المعركة الحالية تحت سقف النظام بشكل عام، ولكن هناك قدر من التباين بين المرشحين لمنصب النقيب ولعضوية المجلس بين فريق يقدم الحريات والكرامة، وآخر يقدم الخدمات والتواصل مع السلطة، وبالتاكيد يبدو الفريق الأول هو الأقرب لروح ثورة يناير بينما يبدو الفريق الآخر هو الأقرب للثورة المضادة، وهنا سيصبح التصويت كاشفا لتغيير المزاج الصحفي بشكل عام ومدى تفضيله للكرامة والحرية على تحسين الخدمات والمزايا المالية، ومدى انحيازه لثورة يناير أو للثورة المضادة.