ورثت الصحافة العربية عن الحياة اليومية الهيام بالكليشيهات، والكليشي هو العبارة أو الرأي المستهلك التي يستعاض بها/ به عن إعمال الفكر: تشكو من محدودية مواردك المالية، فتكون المشورة "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب".
هل لديك علم بأن الغيب يخبئ لي ثروة، ولهذا تنصحني بأن أبسط يدي كل البسط فأقعد ملوما محسورا؟ وقد تأتيك مشورة تناقض هذه تماما، إذا عزمت على إنفاق بعض مالك في أمر ما "القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود"، وهي نصيحة قد تعني أحيانا "اجعل يدك مغلولة إلى عنقك"، كي تصبح يوما ما من الذين يقال عنهم "اللي ما كان له قرش بقى له كرش".
وتشكو لصاحبك الأردني أو التونسي أو اليمني من أنك تعاني من علة ما، وتعتزم مقابلة طبيب، فيتبرع الصاحب بتقديم وصفة من شاكلة ميرمية، على شوية ورق سدر، على عسل جبلي، على الريق (وجميع الوصفات العلاجية الخائبة على الريق)، وتبدي إصرارا على مقابلة الطبيب فيصيح فيك: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب (وهو بهذا يدعي أنه أكثر علما من الطبيب، أو أن الأطباء عموما لا خير يرتجى من زيارتهم).
ومعظم أمثالنا الشعبية الخائبة التي نتعامل معها، وكأنها نصوص سماوية قطعية مسجوعة، وللسجع في الأذن العربية سحر عجيب، فنحن أمة تعشق القوافي الموزونة وإيقاع الكلمات، ولهذا لم تجد قصيدة النثر عندنا الاقبال والاعجاب، لأن موسيقاها داخلية، أو كامنة في المعاني التي وراء الكلمات، ولهذا أيضا، فأبو نواس أكثر شهرة ممن عاصرهم من خلفاء، وكل ما نعرفه عن كافور الإخشيدي هو أن المتنبي شتمه شتيمة الأراذل.
وصحافتنا المنوط بها تنوير الرأي العام، تجيد اجترار الشعارات والعبارات، وهكذا ظلت، ومنذ معركة عين جالوت، تتحدث في افتتاحياتها عن حتمية التضامن العربي، وعن شيء اسمه المصير المشترك، (ولا تقصد بذلك بئس المصير الذي كنا وما زلنا فيه)، وما اجتمع زعيمان عربيان، إلا وبحثا القضايا ذات الاهتمام المشترك.
ومن الناحية اللغوية، فإن كلمة "الاهتمام" هنا تعود إلى "القضايا"، فتصبح القضايا بذلك كائنات عاقلة وراشدة لها اهتمامات لا ندري نحن كنهها، ولا تستعرض وسيلة إعلامية تلفزيونية أو إذاعية ما يرد في الصحف، إلا وقالت في ذات محطة: سيطرت/ هيمنت قضية كذا وكذا على عناوين الصحف، ما يعني أن تلك القضية ذات نزعات إمبريالية توسعية أو عدوانية، وفرضت نفسها بالقوة الفيزيائية على الصحف.
ولا يجوز لصحيفة عربية ذكر اسم بلد عربي غير الذي تصدر فيه، إلا مسبوقا بكلمة "الشقيقة/ الشقيق"، وهكذا، فسيسي
مصر يتحدث عن
السودان الشقيق والبشير السوداني يتحدث عن مصر الشقيقة، رغم أن لب الحديث يكون في معظم الأحوال عن حالة الشقاق بين البلدين.
وأذكر يوم لعب منتخبا الجزائر ومصر الشقيقان مباراة في كرة القدم في أم درمان في السودان، وأقامت الجزائر جسرا جويا من 48 طائرة لنقل المشجعين إلى السودان، بينما لم يجد آلاف المصريين صعوبة في الوصول الى السودان، وعلى رأسهم كبار الممثلين والمطربين، وبعد انتهاء المباراة حول الأشقاء العاصمة السودانية إلى ساحة حرب، وتم قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر والجزائر، ولم ينج الأشقاء السودانيون من السباب، بزعم أنهم كانوا يشجعون منتخب الجزائر، بدلا من منتخب الجارة الشقيقة، مصر.
وكما تكونون يولى عليكم، ولهذا رقصنا على إيقاع: ثورة، ثورة حتى النصر، وجاء الصبح والظهر والعصر، وغربت الشمس أو كادت، ولم يلح بعد في الأفق نصر، ورفع ثوريو العراق وسوريا شعار: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة (ده، ده، ده)، وها هما البلدان يتمزقان إلى شيع وطوائف، بأسوأ مما كان عليه حالهما قبل عهد عمر الفاروق رضي الله عنه.
وفي 5 حزيران/ يونيو 1967 والأيام الأربع التي تلته، كنا موعودين بصلاة العصر في ما تبقى من تل أبيب التي دكها سلاح الجو المصري، على ذمة إذاعة صوت العرب، واستبنا النصح ضحى الغد، عندما علمنا أن سلاح الجو ذاك تعرض للدك وهو رابض في مرابطه.
وتم تهريب ما نجا منه من الفتك إلى قاعدة جوية في أم درمان بالسودان، وهبطت علينا السكينة مع رفع شعار "ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، بدرجة أن الشعار صار يستخدم حتى في منازعات بين شخصين استولى أحدهما على أرض تخص آخر عنوة، فيهتف هذا الآخر بأن ما أخذ بالقوة إلخ إلخ، وهو هنا منطق "ونجهل فوق جهل الجاهلينا".
وهكذا تصبح الشعارات
كليشيهات وترهات، يتم علكها جيلا بعد جيل، رغم أن العلكة (اللبان) الأصلية تجد طريقها إلى المزبلة فور أن تفقد طعمها الأصلي.