سقط العشرات من
الفلسطينين بين قتيل وجريح في مخيم عين الحلوة في مدينة صيدا
اللبنانية، نتيجة الصدام المسلح بين حركة "فتح" المغطاة من القوة المشتركة المشكلة حديثاً من الفصائل الفلسطينية لحفظ أمن المخيم، وبين مجموعة بلال بدر التي رفضت بقوة السلاح انتشار القوة المشتركة في حي الطيرة الذي يقع تحت سيطرتها، مشترطة على الفصائل دفع تعويضات مالية لمتضررين في الحي بسبب أحداث أمنية سابقة، إضافة إلى اشتراطها منع أي منتسب لتلك القوة من دخول حي الطيرة ممن تعتبرهم "عناصر موتورة وغير معتدلة".
الاشتباكات المسلحة المستمرة منذ يوم الجمعة الماضي، اندلعت عقب اعتداء مجموعة بلال بدر على عناصر القوة المشتركة، موقعة خمسة جرحى؛ أربعة من القوة المشتركة بينهم عنصر من حركة "فتح" وآخر من "حماس"، وثالث من القيادة العامة، ورابع من أنصار الله، والخامس فتى فلسطيني أصيب عن طريق الخطأ.
الموقف السياسي للفصائل الفلسطينية، ومنذ اللحظة الأولى، أصَرّ على انتشار القوة المشتركة في كامل أحياء المخيم، وعدم التراجع أو الخضوع لتهديدات بلال بدر الخارج عن التوافق الفلسطيني، ولكن المعضلة التي واجهت الفصائل تمثلت في كيفية تطبيق قرار الانتشار؛ فهل يعتمدون على قوة السلاح في إنفاذ المهمة مهما كلّف الأمر من ضحايا بين الطرفين، ومن المدنيين المتكدسين في أزقة المخيم وحي الطيرة، أم يلجأون إلى احتواء الموقف بما يسمح استكمال مهمة الانتشار في حي الطيرة دون إراقة المزيد من الدماء.
أمام تلك الخيارات، غَلَبَ الرأي المتبني للحسم العسكري، بغطاء من الفصائل المشاركة في القوة المشتركة، لكن الملاحظ إعلامياً ومن خلال التحركات الميدانية، أن المعركة تحولت تدريجياً من مواجهة بين القوة الفلسطينية المشتركة وبين مجموعة بلال بدر، إلى مواجهة مباشرة بين تلك المجموعة وبين حركة "فتح" التي استدعت مئات من عناصرها المسلحة من
مخيمات الجنوب كمخيم البص، والبرج الشمالي، ولاحقاً من مخيمي شاتيلا وبرج البراجنة في بيروت.. ودارت معارك طاحنة على مدار الأيام الماضية دون تقدم أو حسم عسكري حقيقي، سوى المزيد من الضحايا وتهجير المدنيين، ودمار وحرق العديد من منازل الفلسطينيين الأبرياء.
أمام هذا المشهد، تحركت القوى الفلسطينية وبعض الأطراف اللبنانية باحثة عن مخرج من الأزمة التي بَدَت فيها حركة "فتح" بكل قوتها عاجزة عن حسم المعركة مع مجموعة صغيرة من المسلحين. حيث سَرَت الخشية من انتشار القتال في كافة أنحاء المخيم، أو انتقاله إلى مخيمات فلسطينية أخرى، هذا بالإضافة إلى شلل الحياة العامة في مدينة صيدا، حيث الانتشار المكثف لقوى الأمن والجيش اللبناني، ناهيك عن إغلاق العديد من الطرق والمدارس والمؤسسات.
بناء على ما تقدم، وبالنظر في العديد من الحيثيات الأخرى يمكن تسجيل العديد من الملاحظات التالية:
أولاً: أن حركة "فتح" سعت من خلال قيادتها القوة المشتركة، وتزعمها المواجهة مع مجموعة بلال بدر، لتقديم نفسها كمرجعية قيادية عليا للفلسطينيين في مخيم عين الحلوة والمخيمات كافة، أمام الدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية المعنية بضبط الإيقاع الأمني في عين الحلوة والجوار، وهذا ما يفسر تساهل الدولة اللبنانية مع دخول عناصر حركة "فتح" المسلحة إلى عين الحلوة أثناء الاشتباكات.
ثانياً: رغم أن الفصائل الفلسطينية دعمت خيار انتشار القوة المشتركة حتى النهاية إلا أنها تباينت في الآليات؛ ففي اللحظات الأولى وأمام تطرف وخطيئة المدعو بلال بدر ومجموعته المسلحة، انحازت الفصائل للخيار المسلح، ولكن عندما لاحظت تعاظم الخسائر، وسقوط العشرات من المدنيين والمسلحين، وعجز حركة "فتح" عن حسم المعركة على مدار الأيام الثلاثة الأولى من الاشتباكات، بدأ الحديث عن الهدنة المؤقتة، والبحث في سبل حل المشكل، فبرزت فكرة انسحاب بلال بدر ومجموعته من حي الطيرة بشكل أحادي، وانتشار القوة المشتركة هناك، على أن يُبحث لاحقاً مصير بلال بدر، وذلك على الرغم من إعلان أمين سر حركة "فتح" في لبنان فتحي أبوالعردات، في مؤتمر صحفي (11 نيسان/ أبريل)، بأن القوة الفلسطينية المشتركة قررت عدم التفاوض مع بدر، وبأن خيارها هو تفكيك مجموعته المسلحة وتسليمه إلى السلطات اللبنانية.. وهو ما يُفهم منه أنها محاولة لنزع فتيل التصعيد، وحفظ ماء وجه حركة "فتح" والقوة الفلسطينية المشتركة التي لم تستطع حسم المعركة في الأيام الأولى، واستدراكاً منها لاحتمالية تباين المواقف بين الفصائل الفلسطينية إن طالت أمد المعركة التي تأكل من كتف اللاجئ الفلسطيني وعلى حساب استقراره الهش.
ثالثاً: أثبتت الأحداث مستوى التصدع في الجبهة الداخلية لحركة "فتح"، وضعف بناها السياسية والأمنية. فالبرغم من الدعم السياسي الذي حظيت به، وبالرغم من كل التسهيلات التي مُنحت لها باستجلاب المئات من عناصرها المسلحة، إلا أنها فشلت في حسم المعركة، ما أدى لانسحاب بعض مسلحي الحركة من المعركة، في الوقت الذي تصاعدت فيه احتجاجات أهالي عين الحلوة، وتزايدت فيه انتقادات أهالي مدينة صيدا المتضررين أيضاً من انفلاش الوضع الأمني داخل المخيم وفي محيطه، دون أية إشارة حقيقية لإمكانية الحسم باكراً.
رابعاً: يؤكد مشهد الأحداث في مخيم عين الحلوة، أن الشعب الفلسطينيي يعاني من ضعف القيادة السياسية والمرجعيات الوطنية، وترهل الوضع الأمني الداخلي.. ما قد يفتح المجال واسعاً أمام قوى خارجية لاستغلال الوضع القائم باختراق الحالة الفلسطينية في مخيمات لبنان لتوظيفها في مشاريع أقل ما يقال عنها أنها لا تخدم الشعب الفلسطيني وحقه في العودة؛ فاستمرار ظاهرة الانفلات الأمني وتكرار المواجهات الداخلية سيحوّل الفلسطيني إلى عبء على الدولة اللبنانية المضيفة، وستصبح المخيمات على تعاستها نقمة على ساكنيها.. خاصة مع استمرار حرمان الفلسطينيين من حق التملك والعمل في لبنان.
إن استمرار الأزمات السياسية، والأمنية، والمعيشية التي يواجهها فلسطينيو لبنان، مع استمرار حالة الغموض والقلق الذي يشهده الشرق الأوسط.. يوفر أرضية خصبة لاستهداف الوجود الفلسطيني، خاصة إذا شهد لبنان ارتدادات عنيفة نتيجة استمرار الأزمة السورية التي دخلت طوراً جديداً بعد أن دشّنت إدارة ترامب موقفها عبر التدخل العسكري المباشر في الشمال السوري بذريعة محاربة داعش، ومن خلال قصف مطار الشعيرات بصورايخ توماهوك، ما رفع مستوى التصعيد الخطابي بين واشنطن من جهة وموسكو وطهران من جهة أخرى، وهو الأمر الذي قد يُنذر برفع مستوى التصعيد المادي بين الأطراف إذا فشلت في احتواء الأزمة دبلوماسياً وعبر استعادة واشنطن وموسكو التنسيق المشترك بينهما في الأجواء وعلى الأراضي السورية.
وعليه فإن الأحداث في عين الحلوة، ليست بريئة في غاياتها، ولا في توقيتها، ولا في سياقاتها المحلية والإقليمية. وإذا كانت بعض القوى لا تدري، فإنها كمن يدُسّ رأسه في التراب أو يحاول التخفّي خلف إصبعه. فالاحتلال الصهيوني، الحاضر الغائب، هو المستفيد الأول من تفجير الوضع، ومن ضرب السلم الأهلي بين الفلسطينيين أنفسهم، وبينهم وبين الأشقاء اللبنانيين، سعياً منه لخلخلة الوجود الفلسطيني والقضاء عليه في دول الطوق، بعد أن تخلّت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عملياً عن حق العودة وفقاً لاتفاقيات أوسلو، ومواقفها السياسية اللاحقة.