هل يمكن تصور ديموقراطية ما، دون توافر وسائل إعلام حرة؟ هل وجود إعلام حر دليل ديموقراطية؟ هل يمكن الحديث عن مجتمع ديموقراطي في غياب حرية الإعلام؟
سواء حصرنا السياق في الأسئلة أعلاه، أو وسعنا مجال التساؤل إلى ما سواها، فإن الثابت، بالدراسات النظرية وبملاحظة واقع الحال على الأرض، أنه من المتعذر حقًّا، لدرجة الاستحالة ربما، الحديث عن ديموقراطية أو عن مسلسل ديموقراطي، دون وجود إعلام حر ومستقل، إذ إن حرية الإعلام واستقلالية الإعلاميين، لازمة ضرورية لأي تطور ديموقراطي، لا بل قل إن هذه الحرية إنما تعتبر مقياس ومؤشر مستوى ما بلغه هذا البلد أو ذاك من دمقرطة.
الإعلام هو انعكاس للحركية الديموقراطية التي تموج بداخل المجتمع، والتي من شأنها، إن تسنى لها أن تحترم حرية التفكير والرأي والتعبير، أن تفرز خيارات سياسية بهذه الوجهة أو تلك، فيكون الإعلام بذلك فاعلاً إذا لم يكن سياسيا مباشرا، فعلى الأقل فاعلاً مؤثرا في بناء أو إعادة بناء الفضاء العام، من خلال تزويد المواطنين بالمعلومات والمعطيات الأساس للنقاش العمومي، ومواكبة ذات النقاش في الزمن والمكان.
فعندما يطالب الجسم الإعلامي (إعلاميون ومقاولات إعلامية على حد سواء) بضرورة تكريس الحق في الإعلام، وإخراج قوانين لضمان الحق في النفاذ إلى المعلومات، والحرية في نقل الأخبار وتزويد الجمهور بها، فإنهم هنا إنما يطالبون بتوفير مناخ من الحرية للفعل الإعلامي، وخلق مسالك تفاعله مع المجتمع أخذا وعطاء.
بيد أن المطالبة بتوفير هذا المناخ، بزاوية التشريع أو الممارسةً، لا يمكن بالمقابل أن تقوم، فما بالك أن تستقيم، إذا لم تترافق بمجموعة واجبات ومبادئ، وقواعد لا يمكن للإعلامي أن يتجاوزها أو يتجاوز عليها، وهي التي تعبر عنها الأدبيات الرائجة بميثاق شرف المهنة أو بأخلاقيات المهنة، ويسميها البعض ب"الخطوط الحمراء". مسألة المعايير المهنية هي إذن عنصر جوهري، لا بل رافد أساس من روافد حرية الإعلام.
إذا لم نستحضر هذا البعد (بعد المزاوجة بين الحرية والمهنية)، فكيف لنا أن نبرر سلوك إعلامي يطالب بالحرية في الإعلام وبالحق في ممارسته دون إكراهات، وهو لا يقدم لجمهوره معلومات دقيقة، بمواصفات مهنية محددة، ودون استسلام أو انجرار خلف الإشاعة أو المزايدة أو الدوس على حرية وحقوق الآخرين؟.
الرقابة الذاتية هنا ليست، كما قد يبدو الأمر لأول وهلة، تحجيمًا لحرية التعبير، ولا عائقًا بوجه ممارسة حق ما في الإعلام (ولا عيبا في حد ذاتها حتى)، بل هي تعبير عن استبطان واع من لدن الإعلامي لوظيفته، وامتثاله لأخلاقياتها، واقتناعه بأن حرية الإعلام ليست "شأنًا" مطلقًا، بل هي "شأن عام" محكوم بسياق ومؤطر بمتاريس ومحاذير.
ولذلك، نلاحظ أنه حتى في الدول المتقدمة، حيث تصنف حرية التعبير ضمن الحقوق الأساسية "الأصيلة"، فإن حرية الإعلام ليست "شأنًا" مطلقًا، بل هي "شأن عام"، على الإعلامي من بين ظهرانيها أن يتقيد بأخلاقيات مهنية محددة ومضبوطة، ضمانًا لحرية المجال الذي يشتغل في ظله، وحفاظًا على حرية التعبير.
ومع أن حرية التعبير لا تعدو في حد ذاتها غير كونها حقا ضمن باقي حقوق الإنسان، فإن خاصيتها الفريدة أنها عنصر أساس لتجسيد وترجمة وضمان باقي الحقوق والحريات، إذ لو كان لمجتمع ما أن يقطع مثلاً مع ممارسات انتهاك حقوق الإنسان، فإن حرية التعبير هي إحدى أدوات ذلك. إنها تفعل بزاوية فضح هذه السلوكيات، والتشهير بالذين يثوون خلفها أفرادا كانوا أو مؤسسات.
ثم إن حرية التعبير، وضمنها حتمًا حرية الإعلام، لا تعتبر فقط، في ظل مجتمع ديموقراطي، أو ينشد الديموقراطية كأفق، عضد الحرية وركيزتها، بل هي عمودها الفقري، سواء تعلق الأمر بحرية التعبير عن الآراء المقبولة وغير "الخادشة" للحياء العام، أو بتلك التي قد تذهب لحد الاصطدام مع المتلقي أو التعارض مع مواقفه وقيمه وتمثلاته.
إن توفر إعلام حر ومستقل، لا يعتبر (مرة أخرى) رافدا لحرية التعبير فحسب، بل هو الذي يجسد هذه الأخيرة، يترجمها ويعبر عنها في الزمن والمكان. ولذلك، فهي هنا إنما تستوجب حماية خاصة وحضانة مستمرة، درءا لكل خطر قد يداهمها، وتجنبا لكل انزلاق قد يطالها.
بيد أن هذه المسلمة لا يجب أن تبقى دون ترسيم للحدود (حدود هذه الحرية أعني)، لا سيما فيما يتعلق باحترام حرمة وخصوصية وحقوق الآخرين، أحياء كانوا أم ميتين. لكن الترسيم إياه لا يجب في المقابل أن يضيق من مجال فعل الممارسة الإعلامية، بل يجب أن يقتصر على رسم الإطار القانوني العام، وترك التنظيم الأفقي للفاعلين بالسوق، أي للإعلاميين أنفسهم.
بمعنى أنه لا يجب على السلطات العمومية أن تحد باللوائح والتشريعات، من حرية التعبير، ومن ثمة من حرية الإعلام، إلا بمقدار محدد بدقة، غير قابل للتأويل أو للتمطيط. فإذا ما تم هذا التحديد بصيغ هلامية وعامة من لدن المشرع، فإن من شأن ذلك أن يخضعه للتأويل، فيسقط الفعل الإعلامي تلقائيا، ونتيجة لذلك، تحت رحمة السلطة أو تحت طائلة اجتهاد القضاء.
صحيح أن القضاء لا ينطق إلا بما تضعه القوانين وتسنه التشريعات، لكنه قد لا يجد غضاضة في إعمال مبدأ "الاجتهاد" عندما تكون ذات النصوص والتشريعات غير دقيقة، غير محددة وتحيل على اصطلاحات هلامية من قبيل "القيم المقدسة للبلاد"، أو "الحياء العام"، أو "النظام العام"، أو ما سواها، فيقضي بسجن هذا الصحفي أو تغريم تلك المؤسسة بجريرة نص ناقص أو "جريمة" غير مكتملة الأركان.