لم يكن وقوف ترامب على حائط البراق بالقلنسوة اليهودية واضعا يده على الجدار (متذكرا خراب اورشليم كما تنبأ المسيح) ومُودِعا ورقة تحمل صلواته في فتحاته بالأمر المدهش ولا المفاجئ، سواء كان الأمر من زاوية أنه أول رئيس أمريكي يفعل فعلته التي فعل أو من زاوية أنه الرجل الغربي الذى يعلن ويؤكد التواصل الديني والتاريخي والحضاري بين اليهودية والمسيحية وان الديانتين هما العمق الروحي للحضارة الغربية الهيلينية، عدم الدهشة من كونه أول رئيس أمريكي يفعل ذلك فلسبب بسيط وواضح وهو انه لم يكن الموقف العربي والإسلامي في أي فترة من فترات الرؤساء السابقين لم يكن على هذا النحو المزرى من الضعف والتفكك والتحلل الذى هو عليه الآن، فمن ذا هو الذى يحسب لغضبه او ردة فعله على ذلك؟ لا الشعوب كالشعوب ولا الحكام كالحكام ناهيك عن أن جولة ترامب في حقيقتها وفي كل محطاتها تقول هذا القول بالإشارة والرمز واللفظ والفعل.
الموقف الغربي تجاه إسرائيل من يوم الوعد الذى وعِدوه (بلفور) بل ومن قبله ومن الف بعده وبعده، سنجد أنه موقف يعبر عن التزام (ديني/سياسي) نحو تراث مشترك بين الطرفين يتمثل في (التوراة) هذا ما رأيناه واضحا -مثلا- في مواقف الرؤساء الأمريكيين منذ عهد (ترومان) وقرأناه بوضوح في مذكرات (كارتر) الذي أعلن أن تأسيس إسرائيل المعاصرة تحقيق (للنبوءة التوراتية) وعايشناه في سياسات كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة وهو ما يجسد ويفسر ويعنون (العمق الديني) للصراع.
فالمفهوم الإيمانى الذى يربط عودة السيد المسيح بقيام دولة يهودية (صهيونية)، أي بإعادة تجميع اليهود في فلسطين حتى يظهر المسيح فيهم، مفهوم أساسي ونهائي، وبالتالي فإن العلاقة بينهما متجذرة في ضمير وأخلاق!! ومعتقدات الغرب.
هي حقيقة واقعة إذن أن هناك بعدا دينيا للصراع وليس هذا البعد مجرد لمحة عابرة من لمحات المعارك بل هو الدافع الرئيسي والمكون الأصلي لقصة الصراع العربي الإسرائيلي بأكمله.
وتجاوز تلك النقطة ومحاولة حصر (الصراع) في بعده الفلسطيني-الإسرائيلي أو الاحتلال المسلح لأرض عربية هو قصور باطل في الرؤية كان دافعه للأسف وجود العديد من التيارات الثقافية التي ترى في حضور (الدين) في المشهد العام ضربا من التخلف، مع أن التخلف الحقيقي في حقيقة الأمر يتمثل في موقفهم هذا، رغم أن كل ما كشفه الباحثون على اختلاف مشاربهم يؤكد على حقيقة وجود (البعد الديني) في الصراع منذ الاطلالة الأولى لفكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وحتى إعلان قيام الدولة.
لو نظرنا إلى الفكرة الأصلية التي تبلورت قبل أكثر من مائة عام على يد (تيودور هيرتزل) الذى قام بتأسيس أول مؤتمر للصهيونية العالمية في (بازل بسويسرا) في 29-8-1879 برعاية إنجلترا التي كانت تهدف إلى منافع سياسية كبرى بتكوين الدولة اليهودية، فسنجد أن الحديث كله يتبلور حول (وطن قومي لليهود) بمعنى أن الهدف أصلا يخص (جماعة دينية) وهم اليهود المنتشرون في العالم وفق ميلادهم الوطني الذى لا يعتد به ولا ينظر اليه.
وانتهى المؤتمر الى أن هدف (الحركة الصهيونية) هو إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين بالوسائل التالية: تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتنظيم اليهود وربطهم بالحركة الصهيونية (هناك يهود معادون للصهيونية ومعظمهم من المفكرين والأدباء والمبدعين وتتفاوت بينهم درجة العداء للصهيونية، فبعضهم يرفض وجود إسرائيل رفضاً قاطعاً -منظمة ماتسبن ومنظمة الجبهة الحمراء- والبعض الآخر بات يقبل وجود إسرائيل بشرط قيام دولة فلسطينية إلى جانبها كاملة السيادة، مثل ميخائيل فارشافسكي- مردخاي فعنونو- ابراهام بورغ- آفي شلايم- سيمون صبار- عاموس عوز، ومن اليهود غير الإسرائيليين دانيال بارنباوم- نعوم تشومسكي- ستيفن روز وكثيرون غيرهم. سنرى لاحقا أن عداء بعض اليهود للصهيونية بدأ يضعف بالتدريج بعدما صار كثير من العرب غير معادين لإسرائيل.
وتكملة لأهداف المؤتمر الصهيوني الأول :اتخاذ السبل والتدابير للحصول على تأييد دول العالم للهدف الصهيوني (إعطائه شرعية دولية) تشكيل المنظمة الصهيونية العالمية بقيادة تيودورهرتزل وتشكيل الجهاز التنفيذي (الوكالة اليهودية) لتنفيذ قرارات المؤتمر ومهمتها جمع الأموال في صندوق قومي لشراء الأراضي وإرسال مهاجرين يهود لإقامة مستعمرات في فلسطين.
سيحدثنا العلامة د. عبد الوهاب المسيري عن إسرائيل كـ(دولة وظيفية) وسنرى حزمة المفاهيم التي تحكم( العقل الغربي) من البدايات الأولى للصراع (دين وسياسة ومصالح) وهو ما مثلته الحروب الصليبية التسع (1096-1291) استغلال القومية الدينية لليهود في إنشاء الكيان (اليهودي) الإحلالى في تلك البقعة تحديدا، كان لهدفين رئيسيين الأول فصل مصر عن المشرق العربي والإسلامي، لضمان عدم وجود كيان إسلامي قوى يهدد مصالح الغرب بالمنطقة والثاني العمل على استغلال هذا (الكيان/الدولة) في تحقيق المصالح السياسية للحضارة الغربية ناهيك عن العقدة التاريخية الأوروبية تجاه اليهود (شايلوك شكسبير وفاجن ديكينز....الخ).
***
علينا أن نتأكد ونعى وعى اليقين أن هدف إسرائيل النهائي تجاه (الأقصى الأسير) هو الهدم التدريجي بهدف بناء الهيكل المزعوم مكانه وهم يتحركون وفق (مخطط استراتيجي) وينفذونه على مراحل متدرجة ومتصاعدة في كل المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية منذ العام 1948 سنجد أن (القدس) لها أهمية خاصة من خلال مجموع سكانها اليهود الآخذ بالنمو لتحقيق أهداف سياسية وديموغرافية في الوقت نفسه، فمن جهة بات مجموع المستوطنين اليهود في مدينة القدس الشرقية يشكلون نسبة كبيرة من المستوطنين في كل الأراضي المحتلة ومن جهة أخرى بات مجموع السكان اليهود في القدس الكبرى يشكلون نحو 12 % من إجمالي مجموع اليهود في إسرائيل والأراضي العربية المحتلة.
***
سيكون هاما تذكرنا دائما أن الرداء السياسي (العلماني) الذي تلبسه إسرائيل الرسمية ما هو الا قناعا تتخفى وراءه (أساطير دينية) محض أساطير, وتصر إسرائيل من خلالها على تحديد مواقفها من الصراع في الشرق الأوسط استنادا الى هذه الأساطير وبما هو أكثر كثيرا مما تمليه أية اعتبارات (سياسية).
وأخيرا سيكون علينا ان نتذكر في الذكرى الخمسين لهزيمة كل يوم (5 يونيو ) تسمية اسحاق رابين قائد الجيش الإسرائيلي المنتصر لهذه الحرب: إنها (حرب الأيام الستة) وذلك حين طلب منه تسميتها، رابطا بين خلق العالم في ستة أيام وبين ما حدث، ليس لأن ذلك حقيقة، فالحرب انتهت بعد يوم واحد وليس ستة، وليس لأن رابين حَبر في ثياب جنرال، فهو علماني قُح، ولكن وهذا هو الأهم للإشارة والتنبيه وبما لا يُمل ولا يُكل من أن إسرائيل (حقيقة دينية/كونية) لا طاقة لك اليوم بها وبجنودها أيها العربي المسكين.
لكن الحقيقة التي تتأكد لنا كل يوم ومن باطن واحشاء المجتمع الإسرائيلي أننا أمام أكذوبة ولدتها خدعة لأن الحقيقة الكونية -بجد لا مزاح- هي ما قاله الشاعر الإسرائيلي حاييم جوري (كل إسرائيلي يولَد وفي داخله السكين الذي سيذبحه).