ذات مرة في العقد الأول من الألفية الثالثة، وفيما الأمور تضطرب في بلدي اضطراب المصاب بالحمى، والناس مبلبلة تكاد الحيرة تذهب بها كل مذهب قبل سنوات قليلة من إجلاء الرئيس المخلوع "حسني مبارك" عن منصبه الذي أضنى البلاد والعباد في
مصر، وأرهق الأمة العربية، حدث أن تأخر مذيع مُسن عن لقاء عام، فانبرى فور حضوره أحد أساتذة كلية دار العلوم المرموقين في علم اللغة ليقول في معرض تفسير تأخير الأول، وهو صاحب الدعوة للقاء إنه كان يفعل أمرا مهما مصداقا لقوله تعالى في سورة يس: "إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ" (الآية 55).
وعمد الأستاذ الراحل إلى تفسير غياب مقاربه في العمر، وقد أشرفا السبعين، رحمهما الله إلى أنه كما فسر بعض المُفسرين، كان في شُغل عن اللقاء الذي دعا إليه بمتعة حسية شديدة الخصوصية استعجلها في الدنيا مع أنه سيتفرغ لها في الآخرة..!
تقفز هذه الواقعة إلى ذهني مرارا وتكرارا في خضم المتغيرات القاسية التي تمر بها بلادنا، وتكاد تزهق أرواح الكثير من أهلينا هنا وهناك، بخاصة الشرفاء المخلصين. فالمُتحدث بذلك التفسير يومها والمحكي عنه كانا في لقاءاتهما الخاصة المنفردة مع ذوي الثقة من الناس يكيلان السباب للنظام الحاكم، وفي العلن يعلنان هذه الآراء المُحيرة المُغيبة للوعي إزاء الواقع، ثم يرفعان راية عملاقة للقاء عام، اسمه حماية الملكات الثقافية للأمة دون امتلاك قدرات.. وإنما الأهم شغل طرف من الناس والإعلام في ظواهر كم أغرق نظام المخلوع بها مصر مُدعيا أنه لا يفرط في ركيزة من ركائزها..
منذ
رمضان 1434 الموافق 2013م، وعقب الانقلاب العسكري في مصر، وأجزم أنه كان آخر شهر فضيل تذوق فيه صاحب الكلمات نفحات الشهر كاملة بخاصة في ميدانيّ النهضة ورابعة، أمام جامعة القاهرة في الجيزة، وفي شرق القاهرة، وكانت المجازر قد بدأت، والآلام تتعاقب على النفس بخاصة في وجود الآلاف من خيرة رجال مصر من الجنسين، وعدم معرفة النفس بطريق تحرير البلاد من انقلاب عسكري أتى به جنرالات على الدبابات في حماية الطائرات وفوهات المدافع والمسدسات والرشاشات، وأقل ما لديهم هو قنابل الغاز المميتة الفاسدة والخرطوش المغمس في الزرنيخ المميت، وكان يُقال للمتسائلين أيامها أننا فعلنا ما علينا بالخروج معتصمين متظاهرين في الميادين طالبين من الله تفريج الهموم..
وجاء طوفان الدماء إلى بلادي على نحو مخيف، وتقبل الله الدماء الصادقة الطاهرة الزكية لكن الأمر ازداد سوءا، وظل في الحسبان أنه لا رؤية وراء خروج عشرات الآلاف إلى الشوارع في القاهرة والجيزة، فحسب على مدار أسابيع بل سنوات، كما جاء رمضان بنفحاته الإيمانية لمدة أربع سنوات وأعرف في الناس المناصرين للحراك الديمقراطي في مصر مَنْ يتحرقون شوقا لبادرة أمل، كما أعرف الذين لا يشكون في أن نصرا قادما يطرق أبوابهم، وفي المنتصف هناك آلاف الأسر تعاني شظف العيش هنا وهناك..
ويأتي رمضان هذا العام في ظل حصار على الأمة مضنٍ تتراجع فيه قضية بلادي لتضاف إلى فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا ودول أخرى.. الجميع يفتقد الأمن واللحمة الاجتماعية، والقتل أقرب إلى المخلصين من شراك أو أربطة أحذيتهم. ويُضاف إلى الأمر حصار على قطر بحجة دعم حركة المقاومة الفلسطينية حماس، قطرة الكرامة في جبين الأمة، وحجج أخرى، ثم تجيء تولية محمد بن سلمان ولاية العهد السعودية في العشر الأواخر، لترحب بالخطوة إسرائيل كما رحبت بانقلاب السيسي في مصر قبل سنوات قليلة جدا، لتضع الأمة أمام اختبار جديد بالغ القسوة..
مع الصائمين من أولي الرأي والنهى في المنفى المتوسط العالم اليوم صمتُ، ومع أكثر من طرف منهم على غير العادة قضيتُ العشر الأواخر من رمضان، ورأيتُ الجمع مشغولا بالطاعة والعبادة كما رأيتهم في رابعة العدوية، يطلبون الجنة في حين كان طوفان الدماء في العالم الإسلامي وعلى رأسه مصر من تصفيات جسدية للشباب، وقرب إعدام آخرين، ولما يسأل الشباب المغترب قادة العمل الإسلامي في مصر عن الحل يسارعون برفع راية الهجمة الغربية المدعومة من دول عربية وشراستها، وأن الشباب له الاختيار في فعل ما يريد الآن..
ومن ناحية أخرى لمستُ عن قرب ضيق حال أساتذة جامعيين كانوا ملء السمع والبصر في جماعة الإخوان في مصر، وعلى الجانب المقابل لقيتُ شبابا يتضور معاناة فكرية بعد مادية..
وإن في القوم من يقومون ليل رمضان، تقبل الله منهم، غاضين الطرف عن هذا وذاك، يرون أن عبادتهم كفيلة بمغفرة الله لهم تاركين الشباب والكهول في معاناتهم، ومنتقين البعض من المرضي عنهم لتقريبهم..
إنه لمن تمام مأساة الأمة اليوم أن تظل قيادتها المفترضة في شغل عن حل لمآسيها، ولو كان حلا يمثل بادرة في الأفق تستدعي الأمل من سباته، وتحيي مواته في قلوب وأرواح الملايين، وبعض هذه القيادات مع ركونها إلى أماكنها تظن أنها تطيع الله كما أمر.. ألا صدق القائل: إن صرخة المجاهد في ميدان القتال أفضل وأحب إلى الله من دمعة العابد في صومعته. وأضيف بل إن فكرة القيادي الحركي المُفرجة عن الأمة لهي أفضل من الحرص على المزيد من العبادة في رمضان وغيره وترك المُضارين يكابدون ويعانون..!
اللهم اجعلنا بك وبرضاك في شغل فاكهين اليوم وغدا، واجعل اكتحال أعيننا برؤية راية الحضارة الإسلامية ترفرف على العالم بالسلام الحقيقي؛ آخر ما نراه من دنيانا، ثم إن رضاك علينا في الدارين أعز لدينا من المتع الحسية!