في تقديري أن الباحثين المدققين في الشؤون العربية لم يدهشوا كثيرا عندما نشبت أزمة الخليج التي صدر فيها البيان الرباعي من ثلاث دول خليجية ودولة غير خليجية وضعت ذاتها في حرج شديد فسره البعض بضغط خليجي أمريكي.
فتشير الحقائق المتصلة بحقيقة الصراع الدائر حاليا بين قطر وشركائها في الخليج برعاية السعودية، قبل 45 سنة تقريبا إلى أن قطر كانت دائما هدفا لمطامع سعودية ومخاوف خليجية وانها واجهت ذلك بانتهاج سياسة خارجية تكسبها وزنا دوليا من جهة كما ساندت الحركات العربية ضد الشمولية خارج النطاق الخليجي.
ونذكر هنا أن شخصيات عربية طالبت في السبعينيات من كل الدول العربية أن تدعم استقلال الإمارات الخليجية ضد الأطماع الخليجية من الجيران، خاصة إيران والعراق والسعودية.
وقد تبدت هذه الأطماع بعد قرار بريطانيا الانسحاب من الإمارات الخليجية الست سنة 1972، في رغبة شاه ايران أن يأخذ حصته وكانت السعودية تريد هي الأخرى أخذ قطر، كما وضع العراق عينه على الكويت.
بعد انسحاب بريطانيا في يناير 1972 من الإمارات الخليجية برزت خطة تكوين اتحاد الإمارات تحت لواء دولة واحدة، وخرجت قطر عن الفكرة بتشجيع من السعودية، لأن السعودية كانت عينها عليها. فتشكلت الإمارات العربية المتحدة من دون قطر.
ومنذ ذلك الوقت نشبت عداوة مستترة بين قطر والإمارات بسبب هذا الموقف القطري وصاحب ذلك شبه وصاية وأطماع حقيقية في ضمها إلى المملكة السعودية، خاصة وأن قطر لها منفذ وحيد على البر مع السعودية.
وفي بعض التحليلات رأت أن حماية قطر وصون أمنها لا يتأتى إلا بالاستعانة بالأمريكان… فكانت قاعدة “عديد” الأمريكية التي كانت موجهة أساسا إلى لجم الأطماع السعودية وليس أطماع إيران لأن أمن قطر كان دائما مهددا بالسعودية أكثر من التهديد الإيراني، كما أن قطر اتبعت سياسة مستقلة عن السعودية والإمارات في علاقاتها مع إيران وأمريكا، وهو ما أزعج السعودية والإمارات.
ويري البعض أن الأزمة الخليجية الحالية نشبت عندما وجد الرئيس الأمريكي ترامب أن ملف حماية قطر يمثل عبئا ماليا مكلفا فقرر أن يبيع الملف للسعودية، في لقاء الرياض الأخير الذي لوّح فيه ترامب بالتخلي عن قطر مقابل ثمن تدفعه السعودية ودول الخليج.
وبذلك يكون ترامب قد لعب بالسعودية كما لعب رامسفيلد وبوش الأب بصدام، فقال ترامب للسعودية بإمكانك أن تتصرفي مع قطر كما يريحك.. تماما مثلما قال بوش عبر سفيرته في بغداد لصدام بإمكانك أن تأخذ الكويت.
ومما يؤكد ذلك أن مطالب السعودية الأخيرة لقطر تتجاوز مطالب دولة لدولة، فالمطالب أكدت بأن السعودية تعتبر قطر إمارة تتمتع بالحكم الذاتي ليس لها الحق في سياسة خارجية أو دفاعية خارج رضى السعودية.
ويشير الباحثون إلى أن جذور الخلافات بين قطر والسعودية بدأت عندما طالبت السعودية بضم قطر لها باعتبارها جزءا من إقليم الإحساء سنة 1913؛ إلا أن بريطانيا أصرت على الاعتراف بحدود قطر.
وأول ما يلاحظ هنا هو الانتهاك الصارخ لالتزامات دول الخليج في المواثيق الدولية كما يتضح فيما يلي:
ميثاق الجامعة العربية
ينص الميثاق في المادة 5 على انه لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة، وبأنه لا يجوز قيام خلاف بينهما يتعلق باستقلال الدولة أو سيادتها أو سلامة أراضيها،....
كما تنص المادة 6 على أنه إذا وقع اعتداء من دولة على دولة من أعضاء الجامعة، أو خشى وقوعه فللدولة المعتدى عليها، أو المهددة بالاعتداء، أن تطلب دعوة المجلس للانعقاد فورا. ويقرر المجلس التدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء.
وتوجب المادة الثامنة على أن تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقا من حقوق تلك الدول، وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها.
ولكن لسبب أو لآخر استبعدت الجامعة العربية من النظر في الأزمة الخليجية.
مجلس التعاون الخليجي
وجاءت المنطلقات واضحة في ديباجة النظام الأساسي التي شدّدت على ما يربط بين الدول الست من علاقات خاصة، وسمات مشتركة، وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، وإيمان بالمصير المشترك ووحدة الهدف، وأن التعاون فيما بينها إنما يخدم الأهداف السامية للأمة العربية. والعمل على تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين دول المجلس في جميع الميادين وصولا إلى وحدتها. وعن أهداف المجلس أكدت مادته الرابعة على تعميق وتوثيق الروابط والصلات وأوجه التعاون بين مواطني دول المجلس.
ميثاق الأمم المتحدة
نصت المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة على أن تعمل الهيئة وأعضاؤها...وفقا للمبادئ الآتية:
1. مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها.
2.... يقوم الأعضاء بتنفيذ الالتزامات التي أخذوها على أنفسهم بهذا الميثاق. بحسن نية.
كما حددت المادة 3 مقاصد الأمم المتحدة فيما يلي:
1. حفظ السلم والأمن الدولي، وتحقيقا لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية، وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها.
ولقد أعادت الأزمة الخليجية من جديد تساؤلا مطروحا منذ قيام الجامعة العربية مؤداه هو هل الأمة العربية مؤهلة للبقاء أم أنها ستذوي وتموت كما حدث للهنود الحمر وغيرهم؟
وليس هناك أدني مبالغة في الرد إيجابا على هذا التساؤل، فأرضنا هي مهد الحضارات والأديان، وأمتنا هي التي أسهمت في نشأة الحضارة الإنسانية الحديثة علما وفنا وعقيدة، وأثرت عمليات التحول والتنمية وتطوير العلوم والتكنولوجيا. واندمجت في نسيج الحضارة المعاصرة بحيث يصعب فصلها عنها.
وتأسيسا على هذه الحقيقة فعلينا أن نتفق أيضا -دون تهوين أو استخفاف- على أن السلبيات التي تعاني منها الأمة محكوم عليها بوقتية التأثير فلا يتصور أن تؤدي تلك السلبيات إلى زوالها لأن الأمة العربية لديها من أسباب ومقومات القوة ما ينكر عليها الهزيمة، ويواجه بكل منطق مقنع دعوات التـخاذل والإحباط التي تسود بعض الدوائر العربية، بل إن الأمة العربية رغم ما لديها من سلبيات كشفت عنها الأزمة الخليجية الراهنة، إلا أنها -مع ذلك- تبقى مؤهلة وجديرة بإيجابياتها الهائلة أن تحتل ما يخصها من مكانة مرموقة على الساحة الدولية، بما لديها من ثروات وموارد طائلة، ومركز جغرافي فريد، وبعد استراتيجي فاعل، وتاريخ غني حافل، وعمق حضاري وثقافي، وعطاء علمي وفني، وقوة في العقيدة وثقل ديموغرافي إلى غير ذلك من أسباب القوة وأدوات الصراع.
فقد قامت الأمة بالتاريخ والجغرافيا وستبقي بثرواتها ومواردها وعقيدتها رغم ما تلاقيه من هزائم وما يصادفها من كبوات أمة مؤثرة ومعطاءة وفاعلة في الساحة الدولية. فالأمة العربية بإمـكانياتها هذه معدة لتلقي وتحمل أكثر من كبوة أو هزيمة لتقوم من جديد.
استشراف أسباب انهيار النظام العربي التقليدي:
لنتوقف عن تجاهل الحقائق أو تجميلها فقد أثبت الربيع العربي لانهيار النظام العربي الراهن أسبابا أساسية لن ينصلح حال الأمة ولن تستعيد مكانتها وكرامتها وقوتها إلا بعد التخلص منها:
الأول: هو استبعاد الجماهير من عملية صنع القرار السياسي، وتهميش دورها في صياغة السياسات التي تحقق آمالها المشروعة في التنمية والسلام، وما لم تتغير التقاليد القديمة والأفكار السائدة في الفكر السياسي العربي من أن الجماهير غير معدة وغير قادرة على إدارة شؤونها، وأن الحكام هم أقدر الناس على خدمة مصالح الشعوب، سيبقى النظام العربي ضعيفا مما يعرضه إلى الزوال.
الثاني: وهو التقصير الشديد في تجميع عناصر القوة الذاتية العربية وخاصة العسكرية والأسلحة الحديثة المكدسة والمعرضة للصدأ على الأرض للدول العربية والتي تمكنها من مواجهة أي عدوان عسكري خارجي سواء بدحره أو بإلحاق خسائر جسيمة بالمعتدي قد يردعه إدراكها عن الهجوم على أي قطر عربي.
الثالث: هو عدم توفر الإرادة السياسية للأنظمة العربية لإرساء أسباب التضامن السياسي والاقتصادي والعسكري في صد العدوان وبناء قوة اقتصادية وعسكرية عربية فاعلة، وبقاء معظم الأنظمة حبيسة أحقاد وتنافسات قبلية وإقليمية قديمة لا فائدة منها.
الرابع: هو اختراق الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما لدوائر صنع القرار في عدد من الدول العربية التي تتحدث بوجه عربي وتتصرف بأسلوب أمريكي صهيوني.
الخامس: هو دبلوماسية حسن النية أو السذاجة القبلية في بعض الأحيان التي تمارسها بعض الأنظمة العربية.
وأحسب أن النظام العربي الجديد لا بد أن يقوم على قاعدة صلبة ثلاثية الأضلاع:
أولها: هو إشراك الشعب العربي في تولي مقاديره وصياغة سياساته التنموية والتعليمية والثقافية في الداخل، وعلاقاته وممارساته الدولية مع الدول والمنظمات الدولية، وقبل ذلك في اختيار حكامه ومحاسبتهم، بحيث لا يكون الحاكم ضعيفا أمام الضغوط الأجنبية لتآكل شرعيته في النظام القديم، بل يبقى قويا وقادرا لاستناده إلى قاعدة شعبية وتوافق قومي.
وثانيها: هو العمل الدؤوب على التنسيق في التوصل إلى قوة اقتصادية وعسكرية ليس لاستخدامها في العدوان، ولكن لرفعها رادعا ضد أي عدوان خارجي، وللتوصل إلى توازن فاعل للقوى كفيل بحفظ السلام في المنطقة.
وثالثها: توفر الإرادة السياسية لدى الحكومات العربية المنتخبة تعبيرا عن مطالب شعبها، على الدخول في عملية حوار وتفاوض جادة وتفصيلية وممتدة من أجل مأسسة النظام العربي بحيث نصل بالأمة العربية إلى وحدة اقتصادية وسياسية وعسكرية فاعلة آخذين التجارب الآسيوية والأوروبية في الاعتبار.