أبدى جمع من الساهرين الألمان الأصدقاء في حفلة عيد ميلاد، إعجابهم بضيف ألماني، ذكر أنه يعيش حياته متخيلةً، وقال إنه يتوهم نفسه دائماً بطلاً، تصوره كاميرا خفية أينما حل، وحيثما رحل، وقال إنه يعيش بطولة فيلم وهمي طويل، ولم يروِ القصة التي يعيشها.
صفقوا له على فكرته التي يعيش في صدفتها!
وكنت أظن أن الفكرة إسلامية، بل هي إنسانية عامة، فتقدمتُ، وأنا أتمثل قول طرفة بن العبد: إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني .. عنيت فيلم أكسل ولم أتبلد. وقلتُ: يا معشر بني دويتشلاند، المسلمون والعرب جميعهم، يؤمنون بهذه الفكرة إيمانهم بأن الشمس هي شامة النهار الذهبية، وهناك جملة شائعة كالمثل تقول: "وما الدنيا إلا مسرح كبير"، وهي لمؤسس المسرح المصري يوسف وهبي، أما الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، التي توحي بهذه الفكرة، فكثيرة.
ثم رحت أوضح الواضح، وإيضاح الواضح من القبائح، لكن تغاير الزمان جعل رؤية الشمس تحتاج إلى دليل وبرهان، وقلت لعل فكرة الصديق، هي عين الله. والسبب في إعجابهم، هو أن نيتشه أعلن عندهم موت الله، أما كاميرات الرقابة القانونية لديكم، فهي لا تشمل كل شيء. فالإنسان هو نفخة الله، وهو يقلد الدراما الكبرى، دراما الخليقة. فيلم الخالق زمنه عمر الإنسان، وفيلم المخلوق زمنه ساعتان، أو أدنى.
والفارق بين الفيلم، وبين الحياة العادية، هو "أن الفيلم قصة الحياة، محذوف منها ساعات النوم والملل"، كما قال هيتشكوك في تعريف الفيلم، وقلت: إن الإنسان قصة، "إذا هو أمسى هامة فوق صيّر"، كما يقول بيت شعر شهير، وهو نفخة الله وروحه في الطين، وفي المرويات الإسلامية: إن الله لما خلق آدم عجبت الملائكة من صورته، فمر به الشيطان، فدقّه الشيطان فوجده أجوف، فدخل في فمه - من غير استئذان بالدخول- وخرج من دبره- كما يقول الثعالبي، وخطر لي أن أذكر أسماء ساسة وإعلاميين دخل فيهم الشيطان واتخذهم مسكناً خمس نجوم، وبعضهم بنى فيه منتجعات.. ولم يخرج. استطاب الإقامة الدائمة فيهم، لكن كلب هذه الفكرة، كان سيشرّدُ أغنامَ أفكاري عن مرعاها، فتابعت القول، وأنا أتجنب العِظة التي كان تجنبها صعباً:
المخرج الأكبر المتعال، مؤلف الكون، ومكون التأليف هو عزّ وجل، أما السكريبت، السيناريو، مخطوط العمل، فهو قسمان، قسم إجباري لا طاقة للإنسان بتغييره، وهو شكله ولونه وقبيلته، وقسم تكليفي، فكل الأديان لها أوامر وزواجر، والمخرج الكبير، خالق الإنسان، يراقب أداء الإنسان، وتُسجل حسناته وسيئاته في صحائف، والبشر عند الله كلهم أبطال في مسرح الحياة، ليس بينهم كومبارس، فيمكن لبائع الكبريت أن يغلب الملك الكبير في البطولة والمجد، وأن يكون أسعد منه أيضاً، فالأبطال عند الله ليسوا الملوك والمشهورين والنجوم وإنما هم التقاة والشهداء والصديقون، أما أجور الأدوار، فمؤجلة عند الله إلى يوم الدين، وأجور الدنيا من مال ومجد تشبه الأدوار التي يمنحها مخرج الدنيا للممثل، فهي مجرد دور للتصوير، المال في الأفلام، ورق نقد مزيف، مطبوع لا قيمة له، كالأوراق النقدية التي يلقيها البطل في النار، في مشاهد السينما الرديئة، والدنيا كلها عند الخالق، المخرج الأكبر، كذلك.
وقلت إن الدراما تعرّف في القواميس السينمائية بالصراع، وهي في المأثور تعادل الابتلاء أو الامتحان، أو المحنة، وإن الشدة والمعوقات من ضرورات السيناريو، وهي خطة الفيلم، وإن البلاد والبشر كلها ستعاني من الابتلاء والصراع، فهي التي تجلو الأخيار من الأشرار، وإن في أفلامنا دائماً، الشرير يعيش في الملذات، والبطل متهم أو مدان، أو هو في السجن يقاسي العذاب، والفرق كبير بين اللذة والسعادة. وخلصتُ إلى القول: إن جهل الإنسان يتجلى ليس في سعيه إلى الفردوس الأرضي، وإنما في تحقيقه بالقوة.
وقبل السينما، كان الحكواتي يحاكي أثر روح الله، عندما ينهي حكايته بالنهاية السعيدة الفردوسية، والنهاية السعيدة هي مثال الجنة التي يحلم بها الحالمون، وحكايات العرب تنتهي بهذه الخاتمة: وعاشوا في تبات ونبات إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، أما الحكايات الغربية، فيخفتُ فيها ذكر الموت. السعادة الغربية تتنغّص بذكر الموت، النهاية السعيدة للطبل تتوازى مع عقوبة المجرم. قبلة البطل والبطلة كانت هي أهم الخواتيم في أفلامنا، إلى أن ابتكر المحدثون النهاية المفتوحة في الروايات والقصص.
وقلت: إن الدراما هي صراع الإنسان مع نفسه ومع غيره، ولكل امرئ قصصه الصغيرة، وقصته الكبرى، وإنه يمكن أن يكون بطلاً أو شريراً، وإن الأنبياء أبطال، وخمسة منهم من أولي العزم، وقصصهم هي آيات في جمال الحبكة والتضحية والصبر من أجل الرسالة، قصة يوسف عليه السلام وواحدة من أجمل القصص، فقصته تجمع أنماط الحكاية كلها. وقصة أيوب، هي قصة الصبر على المرض، وقصة نوح، قصة الصبر على أذى الناس والسخرية، كل القصص تحوم حول الولادة الجديدة، وقصة موسى، هي قصة العبور والخلاص، وبعض الأنبياء عاشوا أكثر من ملحمة، وفي كل هذه القصص، ما يروي ظمأ البطولة والسعادة والخيال والعجيب، وعدت من غير شرود كبير عن شرحي، قائلاً: إن البشرية هذه الأيام تشهد كل هذه الدراما، فشعوب كاملة تذبح، وملوك يمضون، والملوك والشعوب يحولون القصص إلى ملاحم، ونحن في محنة شديدة، وكل محنة فيها منحة، وإن أكبر مخرج قد يجند لفيلمه ألف ممثل ما بين نجوم وكومبارس، أما المخرج الأكبر، فعدد الممثلين في مسرحه سبعة مليار، فيهم نجوم، وفيهم كومبارس في الدنيا، لكن النجومية عند الله هي التقوى.
وذكرت شيئاً عن البطولة، فقلت: إن الكاميرا التي تصور، هي مثال غير عادل عن عين الله التي لا تنام، والمسلمون يؤمنون أنها ستسجل في صحائفهم، وأن الغرب يفضل على عين الله اسم الضمير، والضمير هو ساعة الإنسان الأخلاقية، ولعل هذا ما قصده الضيف الألماني كارل، وقد يتطابق الضمير مع الله، وقد يحيد، فالضمائر متمايزة، وضمير الغرب غير ضمير الشرق، وذكرت بأن الإعلانات التلفزيونية تحاول محاكاة الجنة إغراءً للزبون وطمعاً في ترويج البضاعة، ونرى في كثير من الأغاني مطرباً مع عشرات من حوريات الدنيا أو مطربة حولها عشرات الذكور، ونحن نحلم بالعودة إلى طفولتنا الأولى في الجنة. وكنت سأشرد قليلاً إلى مسألة البطل، فأقول: إن البطل التقي صار الفهلوي المحتال، الذي يعبد حواسه الخمسة بينما كان البطل قديماً، هو الصابر على الملذات، وإن الإنسان مكلف بدور واحد في مسرحية حياته أو فيلمها، هو فعل الخيرات، والباقي مندوب للممثل، فالله هو مخرج الحي من الميت وهو أعدل المخرجين.
خطبتي كانت تشبه الموعظة، والناس لا تحب المواعظ، وأظن أني أفسدت على الضيف كارل بطولة فكرته.