مع التحركات العراقية العسكرية في اليومين الأخيرين في مواجهة إقليم شمال/كردستان العراق، عادت الأحاديث عن الحل العسكري في مواجهة الإقليم. فهل بدأ الحل العسكري فعلاً بالتوافق والتعاون بين كل من بغداد وأنقرة وطهران؟
تحركت القوات التابعة لحكومة بغداد المركزية وسيطرت على قاعدة عسكرية ومصاف نفط وغاز وعلى مطار كركوك وبعض البلدات والمواقع، فيما أصدرت الخارجية التركية بياناً اليوم/الاثنين يفيد بأن تركيا "تتابع التطورات عن كثب، ومستعدة للتعاون مع بغداد". ومع كل ذلك، ما زلت أرى أن الحل العسكري ليس خيار أنقرة للتعامل مع الإقليم.
في الأصل، تهدف تحركات الحكومة العراقية إلى أمرين أساسيين، السيطرة على المناطق المتنازع عليها (التي يطالب بها الإقليم لكن لم ينص الدستور على تبعيتها له) وفرض سيادتها على الإقليم باعتباره جزءاً من الأراضي العراقية، بمعنى تقويض فرص الاستقلال والانفصال.
ورغم تهديدات البارزاني قبل الانفصال بأن "كل كردي مستعد للقتال من أجل كركوك"، فإن قرار الإقليم يبدو واضحاً بعدم المواجهة حتى الآن على الأقل وبانتظار الموقف الأمريكي ربما. من جهة لأن البارزاني فعل ما يريد فعله حتى الآن وهو إجراء الاستفتاء وبالتالي يريد أن ينزع فتيل أي صراع حالياً ومن جهة أخرى لأنه لا قبل له بمواجهة الثلاثي بغداد - طهران - أنقرة في حال قرروا حصاره اقتصادياً فضلاً عن المواجهة العسكرية. الأمر الذي يعني أن مخاطر مواجهة عسكرية بين بغداد وأربيل ما زالت ضعيفة - وإن ظلت قائمة - وفق المعطيات الحالية، وبالتالي فأي خيار عسكري بالنسبة لأنقرة هو أقل حظاً وفرصاً بطبيعة الحال.
بالنسبة لتركيا، كان وما زال أمامها ثلاثة سياقات لمعاقبة الإقليم ومحاولة ردعه عن مسار الاستقلال، وهي الإجراءات المتعلقة بالسيادة والعقوبات الاقتصادية والخيار العسكري. السياق الأول هو المفضل بالنسبة لأنقرة وقد فعّلته فعلاً، من خلال الإعلان عن التنسيق مع بغداد (وليس أربيل) في كل ما يخص الإقليم من حدود ونفط وعلاقات وغيرها، والمناورات المشتركة مع القوات العراقية وزيادة التنسيق مع بغداد. وأما العقوبات الاقتصادية فقد هددت تركيا بها لكنها لم تتشجع لها أو تسارع بها، أولاً لأنها قد تضر الطرفين وثانياً لأن جدواها ليست مؤكدة وثالثاً حتى تبقي الباب مفتوحاً للبارزاني للتراجع ورابعاً منعاً لإضرارها بسمعتها.
وأما الخيار العسكري فكان وما زال الأخيرَ غيرَ المرغوب به، ويبدو لي - كما كتبت سابقاً - أنها لن تلجأ له إلا في ظروف استثنائية جداً مثل إعلان الانفصال/الاستقلال بشكل أحادي أو حصول اعتداءات كبيرة على تركمان العراق أو نشوب نزاع مسلح عراقي - عراقي أو محاولة البت في مصير كركوك وتبعيتها من طرف واحد، وهي تطورات لم تحصل وليست مرشحة للحدوث قريباً في ظل المعطيات الحالية.
ومن البديهي أن أي تحرك تركي بهذا الاتجاه سيكون بالتوافق والتنسيق مع حكومة العبادي، وقد لا يتعدى ضبط الحدود والمعابر وحماية بعض المناطق. ولعله من المفيد التذكير بأن أزمة استفتاء الإقليم التي قربت بين أنقرة وبغداد من باب مواجهة المخاطر المشتركة لا تعني بأن الطرفين باتا حليفين، بل ما زالت بينهما الكثير من الخلافات والأمور العالقة في مقدمتها مصير معسكر بعشيقة على الأراضي العراقية، ولعل ذلك ما قد يفسر تأجيل زيارة رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم إلى بغداد دون تحديد موعد آخر.
أخيراً، ولعله الأهم، ما تريده تركيا هو ضمان عدم استقلال الإقليم وانفصاله وليس القضاء عليه أو مواجهته، ولعل هذا هو المعنى الرئيس الناظم لقراراتها وإجراءاتها بشكل واضح حتى الآن. فهدف أنقرة ليس حرب البارزاني ولا مواجهته ولا حتى خسارته أو دفعه لأحضان اطراف أخرى، فما زال الرجل خيارها الأفضل بين القوى الكردية في المنطقة وأقربهم لها والمنافس/المواجه لحزب العمال الكردستاني حتى الآن، فإذا ما استطاعت بغداد تقويض مقومات الاستقلال والانفصال، فلماذا قد تضطر تركيا لأي عمل عسكري؟
لقد كانت التهديدات التركية عالية الصوت مرتفعة السقف، لكن الفعل التركي ليس مرشحاً للوصول إلى مرحلة التدخل العسكري، ليس في ظل المعطيات الحالية التي يمكن لتبدلها أن يغير في المواقف والقرارات. ولعل أهم المحددات المؤثرة في هذا السياق هو موقف واشنطن التي تبدو وقد التزمت الصمت حتى الآن والتي يمكن لموقفها أن يمنع المواجهة أو أن يساعد على نشوبها، كما يبقى العمال الكردستاني ومدى حضوره ومشاركته محدداً مهماً ورئيساً لتركيا في مقاربتها للأزمة.