هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ماذا لو لم يفشل السيسي، اقتصاديا، وسياسيا، ماذا لو احتفظ بكل ما لديه من فاشية وجهل وغرور وأنجز في ملفات الخبز، والتشغيل، وأنبوبة البوتوجاز، والصرف الصحي، والمساكن، والمواصلات، هل كان السواد الأعظم من المصريين سيحتقرونه كما هم الآن؟.
الإجابة بكل تأكيد لا، كانوا سيرفعونه إلى عنان السماء، كما فعلوا مع عبد الناصر، ولو قتل نصفهم من أجل أن يحكم النصف الآخر، ولو اعتقل آلاف الشباب، وعذبهم، وتراجع بمكانة مصر الدولية إلى ما هي عليه الآن، ولو باع فوق تيران وصنافير سيناء بأكملها، كما ينتوي، ولو سرق مالهم وجلد ظهورهم، كانوا سيتوجونه ملكا، ويلقبونه بطلا، ويسبحون بحمده حيا، ويبكونه حسرة وقهرا ميتا!!.
ماذا لو لم ينقلب السيسي على محمد مرسي، وتركه رئيسا، فيما دار تقتيلا واعتقالا في معارضيه بوصفهم يسعون إلى هدم الدولة المصرية؟ هل كان السواد الأعظم من الإسلاميين سيكرهونه كما هم الآن؟ الإجابة بكل تأكيد لا، كان سيف السيسي المسلط على رقاب عباد الله من معارضيهم سيتحول بقدرة قادر إلى سيف الله المسلول، فالسيسي هو خالد بن الوليد كما أن مرسي كان سيدنا يوسف الذي خرج من السجن ليعتلي عرش مصر، وسيفه هو سيف الله كما أن مرسي كان مؤيدا من الله، وشرعيته هي شرعية الحق، كما أن مرسي كان لديه شرعية قرآنية قبل الشرعية القانونية والدستورية، كل هذا قيل في مرسي من مشايخ معتبرين ومؤيدون ومؤيدات من المفترض أنهم على درجة من العلم والوعي.
ماذا لو لم يلتفت السيسي إلى رموز التيار المدني ويدور فيهم بدورهم تقتيلا واعتقالا، ماذا لو اكتفى بالإخوان، ماذا لو انقلب على الإخوان، وحصد أرواحهم في رابعة وأخواتها، ثم وفى بكل وعوده من أنه لن يترشح حتى لا يكتب التاريخ أن الجيش المصري تحرك لأغراض شخصية؟ ماذا لو سمح بانتخابات حقيقية فاز فيها البرادعي أو حمدين أو خالد علي، وتشكل برلمان حقيقي من شباب الثورة، يرأسه حمزاوي أو مصطفى النجار؟ هل كان التيار المدني يقاومه كما هو الحال الآن، أم كنا سنتحفظ على دماء الأبرياء ببالغ الحزن والأسى، ونمضي في طريقنا لبناء الدولة الحديثة على أشلاء القتلى، ومرارات الجرحى، والمكلومين في ذويهم؟.
دعك من الماضي، وتعالى إلى واقعنا الأكثر ماضوية: هل يختلف رأي السواد الأعظم من المصريين ونخبهم عن رأي الدولة التي يمثلها السيسي في أغلب القضايا الاجتماعية التي تتعلق بالحريات والتي تعرض علينا يوميا؟.
ما رأي أغلب المصريين في إغلاق برنامج إسلام بحيري بحكم قضائي؟ أغلبهم يوافق، المعارض والثوري، الإسلامي والليبرالي، ويأتي السيساوي في آخر القائمة، الاستثناءات زهيدة جدا، وأغلبها تحركها بدورها أهداف ومصالح، ولو وجدت واحدا وسط كل مئة ألف مصري يرفض إغلاق البرنامج انتصارا لقيمة الحرية فالتقط معه صورة تذكارية وعلقها في بيتك!.
ما رأي أغلب المصريين في اعتقال الناشط الحقوقي أحمد علاء، الشاب الذي رفع علم المثليين في حفل كايرو فيستيفال، ليس لأنه مثلي ولكن لأنه يدعم فكرة الحريات سواء كان مستفيدا منها أم لا؟
أغلب المصريين يلعنونه، ويوافقون على اعتقاله، ويؤيدون الدولة تماما في كل إجراءاتها القمعية معه ومع أمثاله من الفجرة، مع العلم أن فعلته رمزية بامتياز، لا ارتكب شيئا، ولا دعا لارتكاب شيء، هو فقط يدعم حقوق الآخرين في توجهات جنسية مختلفة عما يؤمن به هو نفسه، لأنه ببساطة حقوقي، انتبه: لا أتحدث عن ضرورة دعم المثليين كدليل على الانحياز للحرية، فنحن أحرار أن نرفض صنيعهم كما شئنا، إنما أتحدث عن "الحماس" في الموافقة على سحل المختلفين، بواسطة الدولة التي نعارضها على أرضية الحريات.
أغلب المصريين وافقوا على سجن مذيعة قناة النهار دعاء صلاح لأنها قدمت حلقة لمناقشة فكرة السنجل ماذر، مجرد المناقشة، مع مشايخ بالمناسبة، اتهمتها النيابة بالتحريض على الفسق فوافق المصريون، حكموا عليها بالسجن 3 سنوات فوافق المصريون ولو أعدموها لوافق نفس المصريين الذين يطالبون في سياق آخر بوقف الإعدامات!!.
أقول ذلك لأنني لم أعد أومن بأن تغير الأوضاع في مصر مرهون بنزول الناس إلى الشوارع ومطالبتهم برحيل هذا أو عودة ذلك أو سقوط هؤلاء.
أقول ذلك لأنني لم أعد أومن بأهلية السواد الأعظم من المصريين لأن يحكموا بنظام ديموقراطي حر، (هنا والآن) وأن يعيشوا في مجال عام مفتوح، (هنا والآن) وأن يتنفسوا برئتين سليمتين.
أقول ذلك لأن بعض مثقفينا -وما أكثرهم- روجوا لفكرة الإصلاح من فوق، وأن هذا المجتمع لن يتغير إلا إذا تغيرت طبقة الحكم، وأن مجتمعاتنا مؤهلة للديموقراطية ولكن العسكر "الوحشين" لا يريدون، ولو سقط العسكر لنهضت مصر، فيما هم يعلمون جيدا أن إجابات الأسئلة السابقة بـ"نعم" هي يقين سياسي، وديني، واجتماعي لا يتطرق إليه شك، ومن ثم فالعسكر جزء من مشكلة أكبر تتعلق بمجتمع عسكري مَلّ من صنف من العسكر ويريد استبدالهم بآخر!.
إن مهمة السياسيين الآن ليست دفع الناس إلى الشوارع، إنما استثمار فشل الحاكم الحالي في تحسين شروط الاستبداد –الذي يعبر عن بنية المجتمع وثقافته وذوقه أكثر من غيره– وانتزاع هامش ديموقراطي يعمل فيه الراغبون بالتغيير، ويراكمون جهودا وخبرات قد تثمر على المدى الطويل في تحسين حياة الناس.
المثقفون بدورهم يحتاجون إلى وقت، وجهد، ودعم –لا أعلم من أين– للاشتغال طويلا على عقول الناس التي تعسكرت بفعل حاكم، وشيخ، وقسيس، وإعلامي، وتطوير قراءة جديدة للدين ومفهوم جديد للحياة، ونظرة جديدة للواقع وللتاريخ، ووعيا جديد بأهمية الثورة، وإمكانية النهوض والتطور اللذين لم يكتبهما الله للغربيين وحدهم من دون العالمين، ودون ذلك فنحن نحرث في البحر، وسيظل السيسي رئيسا لكل المصريين، وممثلا واقعيا وحيدا عنهم، والله الموفق!