شكرا ترامب لقد أعدت لنا القدس!

لم يكن كلام مرشد جماعة الإخوان المسلمين في مصر، الدكتور "محمد بديع"، هزلياً ولا كوميدياً، كما تطاول البعض وسخر منه؛ بعد أن قال في المحكمة: "فلسطين قضيتنا الأولى.. أخرجونا ونحن نحرر القدس وفلسطين".. ولم يكن أيضا رد القاضي عليه "القدس خلاص ضاعت وأنتم إرهابيون" إلا معبراً عن نظام يمثله في تلك القاعة.. نظام يعتبر من يدافع عن القدس إرهابيا، نظام لا تعنيه القدس ولا فلسطين، ولا تمثل له تاريخا ولا عقيدة، بل لا تعنيه الأرض من أساسها.. ليس لها رمزية ولا قدسية، فقد سبق وفرط في أراض مصرية، وتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للسعودية ليكون ذلك المحلل لذهابهما للكيان الصهيوني، بل كانت المقدمة لما يعرف بصفقة القرن.. فكيف نطلب من هذا النظام الذي يمثله هذا القاضي أن يفهم ويعي ويقبل كلام الدكتور بديع، والذي يمثل الشعوب العربية التي لا تزال ترى أن قضيتها الأساسية هي فلسطين، وقلوبها تهفو إلى القدس وتتوق لتحريرها، لولا أن أيديها مكبلة بأنظمة استبدادية صديقة للكيان الصهيوني؟؟ ولكم في كلام رئيس وزرائه نتنياهو تأكيد على هذا؛ عندما قال إن مشكلتنا مع الشعوب العربية التي تناصبنا العداء والكراهية وترفض التطبيع معنا وليست مع الأنظمة"!!

هم يفهمون تماماً الشارع العربي ويخشونه، ولكن ما يطمئنهم أن تلك الأنظمة العربية التي صنعت على أعينهم، وتحرس حدود كيانهم، قادرة على ضبط هذا الشارع. فمن يصدق أن مصر، بلد الأزهر، تقبض على صحفيين وقفوا أمام نقابة الصحفيين يهتفون لنصرة القدس؟ وأنها لم تسمح بخروج أية مظاهرة إلى الشارع، واكتفت بالمظاهرات داخل أسوار حرم الأزهر وأسوار الجامعات، فحالت تلك الأسوار الحديدية بين الجماهير الغاضبة وبين الشارع الذي رأى النظام أن يمتص غضبه بهذه السيطرة المنضبطة؟ هذا ما طلبه ترامب من الحكام العرب.. أن يضبطوا غضب الجماهير بعد قراره بإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني، فمنهم من استمع إليه ونفذ تعليماته، ومنهم من أعرض عنه وفعل عكس كلامه، كحكام الأردن والمغرب والجزائر وتونس وموريتانيا؛ الذين انطلقت شعوبهم كالهدير في مظاهرات عارمة ملأت شوارعهم، هذا بخلاف الدول الإسلامية الأخرى، كتركيا وإندونيسيا وماليزيا وباكستان؛ التي خرجت شعوبها عن بكرة أبيها كأمواج البحر المتلاطم.

 

هم يفهمون تماماً الشارع العربي ويخشونه، ولكن ما يطمئنهم أن تلك الأنظمة العربية التي صنعت على أعينهم

ولكن يبقى السؤال: هل بالمظاهرات فقط تحرر القدس؟! أجل، لقد عبرت هذه المظاهرات عن غضبة الشارع المسلم، ورفضه للقرار الأمريكي الأخرق. وكان هذا ضرورياً وهاماً، ولكن تلك المظاهرات لم تأخذ شكل الاستمرار اليومي الذي يزعج الكيان الصهيوني ويقض مضجعه، فسرعان ما خفتت حدتها في كل البلدان التي اشتعلت فيها؛ لأنه لا يمكن لعمل فردي أن يستمر ويتطور.

ولإدراكهم لتلك الحقيقة، قاموا مبكراً بإعداد المسرح السياسي لهذه اللحظة التي يرفع فيها الستار عن أول مشهد في صفقة القرن؛ بضرب التيار الإسلامي، وفي القلب منه جماعة الإخوان المسلمين القادرة على تحريك الشارع وتنظيمه.. شُلت حركتها فضاع الشارع وتاهت الجماهير، وانحصرت المظاهرات فقط في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا ما كان يريده العدو الصهيوني.. هبة شعبية تنفس عن الغضب الكامن في الصدور ثم يذهب كلِ لشأنه وينحصر داخل قوقعته القطرية بمشاكله الذاتية مع نظامه كي تُسلخ القدس من محيطها الإسلامي شيئاً فشيئا، ثم بعد ذلك من محيطها العربي، لتصبح قضية فلسطينية بحتة، خاصة بالشعب الفلسطيني دون غيره، وهذا ما سعى إليه على مدار ربع قرن، منذ اتفاق أوسلو، لينفرد هو بالشعب الفلسطيني؛ يقتل ويعتقل كما يحلو له، وهو ما نشهده الآن في انتفاضة العاصمة وبالبطولات التي يقوم بها الشعب الفلسطيني بمفرده، ولعل أبرزها استشهاد إبراهيم أبو ثريا برصاصات الغدر الصهيونية، وهو رافع علم فلسطين هاتفاً للقدس.. وهو القعيد الذي سبق وأن بترت ساقاه في مواجهة مع هذا العدو الغاصب، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة كفاحه ونضاله، ولو بلسانه، والذي أشعرنا جميعاً بأننا نحن القعداء وليس أبو ثريا!!

ولكن هذه الانتفاضة، شأنها شأن المظاهرات التي تكلمنا عنها من قبل، ليس هناك جهة ما أو قيادة موحدة تنظم فعالياتها، وتحسن استغلالها لصالح نصرة القدس. ولا بد هنا أن تحضرنا الانتفاضة الأولى التي اندلعت في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر عام 1987، أي في مثل هذه الأيام، وإن اختلفت الظروف والشخوص، والتي أوجعت الكيان الصهيوني بحق؛ لأنه كان هناك زعيم، تتفق معه أو تختلف معه، اسمه ياسر عرفات، تلتف من حوله الجماهير، وهو القادر على تحريك الشارع ليس الفلسطيني فحسب، بل الشارع العربي كله. ولكن سلطة أوسلو الحالية، التي نجمت من تلك الانتفاضة؛ التي جعلت الكيان الصهيوني يهرع لعمل معاهدة سلام وهمية مع الفلسطينيين حققت له أكثر مما كان يحلم به، ويكفيه الاعتراف به وإسقاط مبدأ المقاومة المشروعة وإحلاله بخيار السلام كخيار استراتيجي، بينما الفلسطينيون لم يجنوا منها شيئاً بعد 25 عاماً؛ غير ضياع المزيد من الأراضي الفلسطينية وتهويد المدن التاريخية الفلسطينية وبناء المزيد من المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، وفرح المخلفون بمقعدهم الزائف خلف سلطة زائفة لا يملكون من أمرهم شيئاً.. تلك السلطة ممثلة في محمود عباس الذي استطاع فقط في مؤتمر القمة الإسلامية أن يلقي خطاباً ثورياً، ولكنه لم يجرؤ على إلغاء معاهدة أوسلو التي أدت لكل هذه الكوارث التي ضيعت حق الشعب الفلسطيني..

فمن جهة أن لتلك السلطة، حتى ولو كانت وهمية، بريقا له وجاهته، من مواكب السيارات في "الرايحة والجاية"، والسجاد الأحمر، والاستقبالات الرسمية له في زياراته للدول الخ.. ومن جهة أخرى، فإن شبح نهاية ياسر عرفات يطارد السلطة. فحينما اكتشف الخديعة الكبرى التي وقع فيها وأوقع الفلسطينيين فيها، وأراد إصلاح ما اقترفه في حق شعبه بعد فشل مباحثات كامب ديفيد الثانية، وتدنيس شارون للمسجد الأقصى عام 2000 فكانت انتفاضة الأقصى ودعوته للمقاومة من جديد، فكان مصير عرفات الحبس عامين داخل مسكنه، ثم اغتياله بالسم.. فعباس يخشى هذا المصير، على الرغم من أنه لم يعد في العمر بقية، وكانت فرصة له لينهي حياته بهذا الموقف البطولي الشجاع الذي يجُب كل ما سبقه من مواقف مخزية..

لكن عباس منذ البداية، وقبل أن يكون مسؤولاً، لا يؤمن بالمقاومة لتحرير فلسطين! ولكن كي نعطي للرجل حقه، فلا بد أن نذكر له رفضه للضغوط التي مورست عليه من قَبل السيسي لعدم حضور القمة الإسلامية في إسطنبول. ولأن السيسي وولي العهد السعودي محمد ابن سلمان قطبان ضالعان في صفقة القرن، وقد أطلعهما ترامب على قراره قبل خطابه، كما ذكر مسؤول بالخارجية الأمريكية والقناة العاشرة الإسرائيلية، فقد كانا حريصين على إفشال القمة الإسلامية، بتمثيل بلديهما المتدني فيها، كما حاول أبن سلمان الضغط على ملك الأردن، الملك عبد الله بن الحسين، لعدم الحضور، إلا أن موضوع القدس بالنسبة لهما (أي عباس وعبد الله) مصيري، ولا يستطيعان أن يتخلفا، عنه فباءت محاولة السيسي وابن سلمان بالفشل!

 

ولتبييض الوجه، ولكى تغسل مصر يديها، لجأت إلى تقديم مشروع قرار بشأن القدس لمجلس الأمن؛ صيغ بشكل يُمكن أمريكا من استعمال حق الفيتو

ولتبييض الوجه، ولكى تغسل مصر يديها، لجأت إلى تقديم مشروع قرار بشأن القدس لمجلس الأمن؛ صيغ بشكل يُمكن أمريكا من استعمال حق الفيتو. فهو لم يشر، لا من قريب ولا من بعيد، إلى أمريكا أو ترامب، مما مكن أمريكا من التصويت ورفضه! إذ تنص المادة 27/3 من ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك البند 3 من المادة 52؛ على امتناع من كان طرفا فى النزاع عن التصويت. ومن الطريف؛ أن محمود عباس ذكر هذه المادة في خطابه الثوري في القمة الإسلامية!

ومع كل الآمال التي كانت موضوعة على قمة إسطنبول، ومع كل النوايا الطيبة والصادقة من الرئيس رجب طيب أردوغان، والتي تعبر بحق عن ضمير الأمة، إلا أنها لم تخرج بقرارات حاسمة تتناسب مع الحدث الجلل، وترضي طموحات الشعوب الإسلامية، وخاصة أنه كان فيها حوالي عشرين دولة تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني. فلم يلوح البيان الختامي إلى قطع العلاقات، أو حتى سحب السفراء كأضعف الإيمان؟ فكان طبيعياً مع سقف التوقعات الذي انخفض لأدناه؛ ألا يتم التطرق لمثل هذا مع أمريكا. وزاد من إحباط الشارع ترسيخ القمة لتقسيم القدس إلى شرقية هي عاصمة فلسطين، وغربية تتبع الكيان الغاصب. والشعوب الإسلامية تعتبر القدس مدينة واحدة لا تقبل التقسيم ولا التجزئة.. الخلاصة، أن المؤتمر لم يكن لديه من أوراق الضغط وأدوات القوة التي تمكنه من فرض واقع على الأرض؛ يجبر أمريكا على التراجع عن موقفها، ولهذا جاءت قراراته باهتة وصادمة!!

 

إذا كانت القيادة قد غابت عن الشعب الفلسطيني؛ الذي كان من الممكن أن يأخذ من قرار ترامب زخماً لدعمه في إلغاء معاهدة أوسلو، فإن على قيادة حماس ألا تضيع تلك الفرصة

وإذا كانت القيادة قد غابت عن الشعب الفلسطيني؛ الذي كان من الممكن أن يأخذ من قرار ترامب زخماً لدعمه في إلغاء معاهدة أوسلو، وفرصة للتملص من تبعاتها المشينة، فإن على قيادة حماس ألا تضيع تلك الفرصة للتخلص من الأعباء التي وضعتها على كاهلها المصالحة مع فتح، وألا تستسلم لضغوط القوى الإقليمية عليها. فحماس في نظر الشعوب الإسلامية تعني المقاومة، والآن وقت المقاومة من أجل القدس. وقد بدأ العدو الصهيوني إرسال رسالات جس نبض من خلال قصف يومي لغزة بالطيران، وكأنه اختبار استفزازي لها، ليرى رد فعلها. ولكن عليها أيضاً ألا تنجر لمواجهة غير محسوبة، بل لها أن تختار التوقيت والظرف المناسب لها، وعليها أن تقود انتفاضة العاصمة وتدعمها مع فصائل المقاومة الأخرى، وألا تترك هذه الانتفاضة عشوائية بلا قيادة تنظمها..

نعود لكلام المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين؛ لنفهم لماذا صنفت هذه الجماعة على أنها إرهابية، ولماذا غيبت في غياهب السجون، بل ولماذا أصلاً أسقط حكم الرئيس محمد مرسي؟! الآن حصحص الحق وظهرت الحقيقة.. لقد كان المسرح السياسي يعد لهذه اللحظة، والتي هي البداية وليست النهاية، فيما يعرف بصفقة القرن والتي كشفتها أكثر من جريدة غربية، وكان آخرها مجلة "American Conservative" التابعة لأنصار الحزب الجمهوري، والتي أوضحت تفاصيل اللقاء الذي تم بين محمود عباس ومحمد بن سلمان أو "MBS" كما يسمونه في أوساط المخابرات الغربية، والذي قال فيه لعباس "انس القدس نهائياً"، ودولة فلسطين ستكون في قطاع غزة، مدعمة بأراض غير محددة المساحة بعد من شبه جزيرة سيناء. وهذا يؤكد أن قرار ترامب لم يكن متهوراً، بل جاء نتيجة تفاهمات مع الدول العربية المؤثرة. وما كان لهذا القرار أن يصدر، ولا لصفقة القرن المزعومة أن تمر، في وجود حكم الرئيس محمد مرسى، فكان لا بد من إزاحته من المشهد وإزاحة الإخوان المسلمين، العقبة التي تقف حائط صد أمام مشروع الوطن البديل للفلسطينيين..

وأخيرا، ورغم المشهد الحالك في الظلام، إلا أن نور القدس قد بعث من داخله ليضيء قلوب المسلمين في شتى بقاع الأرض، والذين غيبتهم أحداث بلادهم عنها.. وها هي قلوبهم قد عادت تهفو إليها. القدس هي كلمة السر التي توحد المسلمين، رغم اختلاف مشاربهم ورؤاهم وأفكارهم. فشكراً ترامب.. لقد أعدتنا بقرارك الأحمق للقدس، وتوقع زلزالاً عنيفاً سيضرب المنطقة بأكملها، يعيد خلط الأوراق كلها من جديد، ولن يمكنك من تمرير صفقتك المجنونة.

#القدس_عاصمة_فلسطين_الأبدية