خلافا لمن يعتقد بأن الفكر الإسلامي ساكن وقابع في مكانه لا يتحرك، سواء في هذا الاتجاه أو ذاك، فإن المتأمل في ما يكتب ويقال؛ يرى بوضوح أن هذا الفكر لا يهدأ ولا يستقر، وإنما هو في حراك دائم. لكن السؤال الذي لا مفر من طرحه والإجابة عنه بكل موضوعية وبعيدا عن العواطف: عن أي فكر نتحدث؟ وفي أي اتجاه يتحرك؟
الحقيقة التي لا يجب إنكارها تتعلق بأن تحت هذا العنوان العريض توجد مدارس وتيارات. وأنه عند البحث والتدقيق، نرى أنفسنا أمام حالة من التنوع الشديد إلى درجة الانتقال من النقيض إلى النقيض في المسألة الواحدة. ولعل في ذلك سر من أسرار استمرار الإسلام والثقافة الإسلامية.
عندما نحاول تصنيف هذه التيارات، نجد أنفسنا نصطدم بإشكالية المصطلحات التي غالبا ما تثير الخصومة بين المنتمين إلى هذه المدارس والتيارات. ولعل أقل المصطلحات إثارة في هذا السياق؛ تقسيم هؤلاء بين محافظين وإصلاحيين. ولكل منهما خصائصه وأهدافه وأدواته التي يعتمد عليها للتحليل والاستنباط. بطبيعة الحال، نجد المحافظين يعتبرون أنفسهم قادة الإصلاح، ولكن بمفهومهم الخاص. وإذا تم التوسع في هذا المجال، يصبح لا مفر من القول إن التيار الإصلاحي أو التجديدي يتفرع بدوره إلى اتجاهات فرعية تميزها عن البقية في ضوء الحدود التي تضعها لنفسها. وكذلك الشأن بالنسبة للمحافظين.
لماذا هذا التقسيم العام ضروري؟ لأنه عند الحديث عن ديناميكية الفكر، تجدر الإشارة إلى أن الجميع يتحركون، ولكن كل طرف منهم يتحرك في اتجاه مختلف عن البقية. ومن هنا، تجب معرفة الطريق الذي يسلكه كل تيار حتى يقع الحكم له أو عليه. فالسلفيون على سبيل المثال، وهم أنواع، يعتقدون بكونهم المتمسكون برسالة الإسلام والمسؤولون عن حمايته، لكن الكثير منهم يدفع بهذا الدين نحو الطرق المسدودة التي تجعله محل هجومات عنيفة من قبل خصومه، في حين أن هذا الدين بريء مما يقال عنه وممن ينطقون باسمه.
لا يزال الفكر الإسلامي محكوما بالتراث الذي أنتجه السابقون. إذ كلما دار جدل ما، ترى المتنافسين يحتجون لتعزيز آرائهم بما جاء على لسان الفقهاء والأصوليين والفلاسفة السابقين. وهذا يدل على أن الماضي لم يمت ولم يندثر، وإنما لا يزال حيا في النفوس والعقول. لكن مع ذلك، الحاضر يحاصر أهل الفكر، ويدفعهم إلى مراجعة الكثير مما يحملونه من قناعات ومفاهيم. كما أن الحاضر في سياق عولمة جارفة، وفي ظل متغيرات متلاحقة وسريعة، يلاحق بدوره ذوي الفكر الديني، ويطرح عليهم قضايا مختلفة وأولويات مغايرة؛ تجعلهم أمام ثلاث خيارات لا يستطيعون تجاوزها، إما الرفض المستحيل، أو الاستسلام للحداثة برمتها، أو البحث عن صيغ توفيقية لا تقطع مع الجذور ولا تتماهى مع الوافد. وفي ظل هذه التجاذبات الصعبة يتطور الفكر وتتجدد الثقافة.
هكذا نهض الفكر السياسي الإسلامي بعد جدل واسع لا تزال أصداؤه متواصلة في بعض الأوساط. لقد تراجع الطرح السلفي أمام الفكر الديمقراطي، وأثرت الليبرالية بشكل واسع في خطاب حركات الإسلام السياسي وفي الباحثين المسلمين. كما ارتجت مفاهيم المرحلة السابقة المتعلقة بالمجال الاجتماعي الخاصة بتنظيم المجال العام، وهو ما جعل الأفكار والأخلاق تتأثر بموجة الحريات، وانقلاب الأدوار داخل المجتمع، وكذلك تلاقح الخطاب الفلسفي بالفكر الفلسفي العالمي، وهو ما كان له الوقع الإيجابي على الفلاسفة العرب المحدثين، دون أن يعني ذلك التوصل إلى مخاض جديد.
ما بقي ينتظر المراجعات الجذرية له صلة بثلاث مجالات حيوية. أولها الفكر العقائدي الذي لا يزال يدور حول المحاور القديمة، دون أن يتمكن حتى الآن من تأسيس مواقف مختلفة تعطي دفعا جديدا وقويا للمؤمن في الوجود وفي الإنسان.
أما المجال الثاني، فهو المجال الاقتصادي الذي فشلت المحاولات التي تمت لإضفاء حالة من الشرعية عليه. فالاقتصاد الإسلامي بقي مقولة جوفاء، بل هو تحول إلى ليبرالية مغلفة بشعارات إسلامية. حديث عن الاقتصاد في غياب العدالة هو إعادة إنتاج لفلسفة اقتصاد السوق.
وأخيرا تأتي الحريات الفردية، لتضع عشرات الأسئلة في مرحلة تاريخية، حيث لم يعد من مجال لإنكار وجود الفرد والحديث عن دوره وحقوقه. والفرد يحتاج إلى تأسيس، والتأسيس يحتاج إلى فكر يتمتع بالجرأة والقوة.
هذه هي المعارك التي لا مفر من خوضها حتى تتقدم مسارات تجديد الفكر الإسلامي، ولا يبقى يلاحق الفكر الإنساني في عالم متسارع وغير متكافئ.