ثمة مشهد مفتاحي في الجزء الأول من خماسية "ليالي الحلمية"، أحد
أشهر الأعمال الدرامية المصريَّة والعربيَّة على الإطلاق؛ مشهد تدور أحداثه في
أوائل أربعينيات القرن العشرين. ذلك هو مشهد "المناضِل" طه السماحي (عبد
العزيز مخيون) مُتسللا لسراي الرأسمالي ورجل الصناعة سليم البدري (يحيي الفخراني)؛
هربا من مطاردة البوليس السياسي على أثر قتله بعض عساكر الاحتلال البريطاني.
في هذا المشهد يبرُز مفهوم أسامة أنور عكاشة للهوية "المصرية"،
ليس باعتبارها شكلا عضويّا ذي ملامح صارِمة أو صياغة "حضارية" مُلفَّقة
من مؤثرات شتى (كما سعى لذلك في مُسلسلي "أرابيسك" و"زيزينيا"
مثلا)، لكن المشهد يوجز مفهوم الهوية "المصريَّة" في محاضرة السماحي
القصيرة للبدري، عرفانا بجميل إنقاذه؛ بوصفها مقاومة للاستعمار، ودعم ومساندة من
يضطلعون بهذه المهمة. وعكاشة هنا قريب من حقيقة المفهوم في السياق التاريخي الذي
يعرضهُ فيه. لكن المهم في هذا المشهد ليس مفهوم الهوية بحد ذاته، بل هو
"بطولة" السماحي التي جعلته يرى نفسه في مرتبة أسمى أخلاقيّا من البدري،
ومن ثم أهَّلته ليُحاضر عن الهوية ومقاومة الاستعمار.
وفي الجزء الثالث من ذات المسلسل، يُعيد عكاشة استنساخ ذات المشهد في حقبة
السبعينيات بعد أن تهدَّمت الحلمية القديمة (أو "مصر" القديمة) وظهرت
حلميَّة الرعاع (أو مصر السادات!). يستنسخ المشهد لكنه يُعيد إنتاجه هذه المرة
بأحد "لا أبطال" ما بعد الحداثة/ما بعد الكولونيالية؛ أحد الأصوليين
الملتحين! شاب من الأصدقاء القُدامى لوَلدي سليم البدري، يلجأ إليهما (في منزل أبيهما)
هربا من أمن الدولة الذي يُطارده بسبب أحد الأعمال "الإرهابية"، التي
نفَّذها بعض رفاقه بتفجير ملهى ليلي في شارع الهرم.
صحيح أن دراما عكاشة قد تجاهلت عامِدة صراع الدولة مع
الإخوان المسلمين
خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، رغم أن قسما كبيرا من هذا الصراع تدور
وقائعه في حي الحلميَّة، بؤرة المسلسل المكانيَّة؛ ثم أظهرت
الدراما بعض
"الأصوليين" المنتمين للجماعات الإسلامية المسلحة فجأة في ثمانينيات
القرن العشرين، كأنهم نبتٌ شيطاني بلا تاريخ ولا جذور، أو كأنهم نتوء اجتماعي
وافدٌ لا أصل له، وذلك اتساقا مع السردية العلمانية عن "الإسلام
السياسي" بوصفه وافدا بدويّا هبَّ مع "تخلي" السادات عن خط سلفه
المقبور. لكن الأخطر من بث هذه السردية دراميّا هو صورة الأصولي الملتحي المنتمي
لإحدى الجماعات المسلحة، صورة الجبان مهزوز الشخصية، الذي يبحث عن سلوى الهوية في
"التطرُّف" ويفرغ كبت الضغط الاقتصادي، الذي تسبب به الانفتاح؛ في
العنف، وذلك في اختزال درامي مقصود لرؤية من تبنَّوا خيار العمل المسلح. فالأصولي
في هذه السرديَّة لا بطولة في روحه، فهو لا يُحاضِر ولدي البدري عن معدلات التحديث
التي شوهت مجتمعه، ولا عن عجزه عن مواصلة الحياة في مثل هذا المجتمع الممسوخ، ولا
يُحاول أن يُبين لهم معالم الهويَّة الأصليَّة التي يُعاني هو وأضرابه من طمسها الممنهج منذ النكبة الناصريَّة.
وهذا النموذج "الوضيع" للأصولي سوف يُبلوره عكاشة لاحقا، في شخص توفيق
البدري الصغير (علاء مرسي).
ورغم الذكاء الفني الذي جعل من إعادة إنتاج المشهد إعادة إنتاج لسياقات
العلاقة بين الفاعلين السياسيين، القادمين من خارج قفص الترشيد؛ وبين السلطة
"الوطنية"، بعد أن حلَّت الدولة ما بعد الكولونيالية محل الاستعمار
المباشر.. ورغم أن تجنُّبه مجرد الإشارة لوجود الإخوان خلال فترة تزيد على
الأربعين عاما جعل المشهد يبدو موحيا بأن إعادة إنتاج نمط العلاقة الكولونيالية
القديمة هو "اختراع" ساداتي، بعد فترة انقطاع تاريخي "فردوسي/ ناصري"؛
وليس اطرادا لنمط ناصري/كولونيالي راسخ، فإن الخطير هنا هي صورة الأصولي
"المتطرف"، الذي لا يشعُر بأي سمو أخلاقي ولا استعلاء نفسي، ولا يُعبِّر
عن أية هوية أو حتى ثبات انفعالي؛ كأنه ورقة جافة تذروها الرياح، رغم أنه في حقيقة
الأمر يفعل ما يؤمن به، مثله في ذلك مثل السماحي. لكن عكاشة لا يحاكمه وفقا
لنموذجه ورؤيته الناصرية للهوية البرانية فحسب، بل يحاكمه جوانيّا أيضا؛ فالشاب
الأصولي عند عكاشة قد "تخلى" عن "دينه" القومي، الذي هو دين
عكاشة المبهَم الملامح؛ فانتكس أخلاقيّا ونفسيّا!
إن تصوير الأصولي بهذا الشكل لا يطوي فحسب وعي عكاشة بالطبيعة ما بعد
الحداثية لهذا المنتج، بل يطوي كذلك رغبة واضحة في سلب النموذج أية جاذبية قد
ينطوي عليها، وبالتالي تقويض أي مفهوم مختلف للهوية (ومن ثم الألوهية) قد ينطوي
عليه، بالمخالفة لمفهوم الهويَّة الذي تروِّجه الدولة المصرية المتألهة. إذ أن كل
ما يرغب فيه الشاب هو ملجأ يختبئ فيه وينجو بنفسه كأنه جُرذ تافه، لا مناضل يرجو
حفظ حياته حتى يواصل "النضال" مثل السماحي مثلا. كأنه مُكرهٌ على ما آل
إليه، أو كأن "قرارات" السادات (التي يعتذر بها الناصريون وحثالات
اليسار!) قد اضطرته فعليّا إلى الخط الذي اختاره لحياته. وهو تجلٍّ لرؤية عكاشة
المادية الجبرية المعادية للإنسان، والمستمدة من رؤية الناصرية للإنسان.
وقد كتبت شيريل بينارد، مؤلف تقرير مؤسسة راند البحثيَّة الأمريكيَّة
المعنون: "الإسلام الديمقراطي المدني"، الذي أصدرت "تنوير للنشر
والإعلام" ترجمته العربية في عام 2013م؛ أنه ينبغي تصوير الأصوليين لا بوصفهم
"أبطالا أشرارا"، ولكن باعتبارهم جبناء مختلين عقليا. فهذه إحدى أهم
الاستراتيجيات الإعلامية لتقويض النموذج أخلاقيّا. فتُنزع منه تماما كل جاذبيَّة،
كأن من تبنوه شرذمة ضالة من الضباع التي لا تنتمي إلى الإنسانية، ولا تُلبي دوافع
إنسانية (وإن أخطأت الطريق)، حلال استئصال شأفتهم وإبادتهم حتى يسود السلام
الفردوسي الموهوم مرة أخرى، كأن هذا السلام كان "حالة الطبيعة" الناصرية
التي عكَّرها الأجلاف!