يذهب بعض المنظِّرين المعماريين، والمختصين بتاريخ الفن وتصميم
الأزياء، إلى أن الأنماط والأساليب التي يميل إليها مجتمعٌ، وتنجذب إليها غالبيته؛
تُجسِّد بالضرورة خاصيَّة مُفتَقَدَة في ذلك المجتمع. إذ يعكس التبسيط في التصميم
المعماري وفي الزي مثلا تعقُّد الحياة نفسها، ويعكس الجنوح إلى "التحرُّر"
من التقاليد الأخلاقيَّة والإجراءات الإنسانيَّة الموروثة -في
الملبس والبناء- مُجتمعا
شموليّا مُتسلطا فوق كل شيء، وذلك كما تعكس التصميمات الكلاسيكية التي تُظهر
التحكم والسيطرة مُجتمعا تسوده الفوضى والعنف، ويعكس فرط اللياذ بالطبيعة في
التصميم مُجتمعا يُعاني وطأة التحديث الذي غيَّب الإنسان في غابات إسمنتيَّة.
وبهذا، صارت
الذائقة الكامنة خلف تفضيلٍ غالبٍ في تصميمٍ؛ تجسيدا لما
يُعاني المجتمع من تغييبه، ويحتاج إلى استحضاره ولو على المستوى الشكلي/ البراني؛
لتهدأ نفسه بعض الشيء وتقرَّ إلى أجل، فإن الاستحضار البراني لا يُمكن أن يُغني
طويلا عن الاستحضار الجواني الكامل وأسبقيته.
وبقطع النظر عن أن تصميم الأزياء والأثاث والمباني لا يعكس فحسب
احتياجا وظيفيّا ثم يُلبيه، بل يخلق في الوقت ذاته احتياجات نفسيَّة واجتماعيَّة
جديدة مُطالبا بتلبيتها؛ فإن السؤال القيمي الذي يطرحه أي تفضيل إنساني يصيرُ هو: ما
الذي يفتقده المصمم -الإنسان أو المجتمع- المستهلك؛ ليرى في أسلوب تصميمه ونمطه
جمالا ما أو جاذبيَّة؟ فإن كل ما يُدرِكه الإنسان في إبداعه -أو إبداع غيره- ليس
القيمة المُطلقة تتجسَّد تجسُّدا موضوعيّا كاملا، وإنما يكون إدراكه نسبيّا؛
يُعبِّرُ عن موقف مبدئي وعن احتياج خاص وعن رؤية للوجود. فمثلا، ما الذي يجعله يرى
الجمال في ملبسٍ -أو مبنى- ليس له حظٌّ "موضوعي" من جمال بل على العكس؛
يشي بقدرٍ لا يَخفَى من القُبح (مثل ما سُمي بالمعمار الوظيفي، أو البنطالات
الممزَّقة في مواضع شتَّى!)؟ وما الذي يجعله يُقبِلُ إقبالا كاسحا على وجبة
غذائيَّة بفرط شهيَّة أقرب إلى الشبق، وليس فيها رائحة مكون "موضوعي" واحد
شهي، بل هي طافحة بسوء اختيار المكونات ورداءتها وكارثيَّة تركيبها، ناهيك عن
رداءة الإعداد؟
بقطع النظر عن أن تصميم الأزياء والأثاث والمباني لا يعكس فحسب احتياجا وظيفيّا ثم يُلبيه، بل يخلق في الوقت ذاته احتياجات نفسيَّة واجتماعيَّة جديدة مُطالبا بتلبيتها؛ فإن السؤال القيمي الذي يطرحه أي تفضيل إنساني يصيرُ هو: ما الذي يفتقده المصمم -الإنسان أو المجتمع- المستهلك؛ ليرى في أسلوب تصميمه ونمطه جمالا ما أو جاذبيَّة؟
جدير بالإشارة إلى أن إجابات مثل هذه الأسئلة لا يمكن أن تكون إجابات
شخصيَّة "ذاتيَّة" نسبيَّة، تُعبِّر عن ذائقة مُختلفة وليدة بيئة
مختلفة؛ وإنما إجابات قيميَّة معياريَّة مصدرها ميتافيزيقي (مُفارِق لهذا العالم)،
فإن أية إجابة بشريَّة ستصير إجابة نسبيَّة كذلك، مهما كانت قريبة من "الحق
الموضوعي" بقُرب صاحبها من مصدر القيم سبحانه؛ فالقُرب من المصدر لا يعني
الاتحاد به أو تجسيده. وبعبارة أخرى؛ فإن الحكم هنا ليس إجرائيّا تفصيليّا ولن
يكون، وأداة هذا الحكم ليست هي الذائقة الشخصيَّة، وإنما القيم الإلهيَّة
المنزَّلة؛ فكل ما خالفها خرج فورا من دائرة "الجمال الموضوعي"، وكل ما
جاهد مُلتزما القدر الأعظم من هذه القيم الربانية؛ صار مما ينفع الناس ويمكث في
الأرض.
وعليه؛ كان الحكم بالجمال/ الإحسان أو القبح/ الجور (وغيرها من أحكام
عالم الظاهر) حكما قيميّا؛ مصدره معرفة إلهيَّة اعتَمَلَت في فضاء الإنسان الجواني
وأثَّرت فيه، قبل كونه حكما على ظاهر جد خادع؛ يبدو موضوعيّا لعيون لا يُمكنها أن
تدركه إلا إدراكا ذاتيّا نسبيّا محضا.
ولعلَّ المطَّلع على النماذج الإنسانيَّة والاجتماعيَّة البائسة،
التي عانَت الحرمان الشيوعي القسري والشامل في كل شيء، ابتداء من الحريات العامَّة
وانتهاء باختيار المأكل لشُح المتوفر للجمهور، وكيف فرَّ من فرَّ منهم إلى الغرب
لأسباب معيشيَّة قد تبدو لنا اليوم تافهة أو غير معقولة، وكيف اصطفَّت الجماهير
الروسيَّة بالآلاف أمام مطاعم ماكدونالد الرديئة في موسكو عشيَّة سقوط الاتحاد
السوفييتي وغزو "الرموز الرأسماليَّة"، وكيف كان بنطال الجينز يُعَدُّ
آنذاك غاية ومطلبا ونعمة عُظمى، ومظهرا من مظاهر "التحرُّر الرأسمالي"؛
يُدرك كيف يمكن للحرمان "المطلَق" -المفروض من أعلى!- أن يُفسد ذائقة
الجماهير إفسادا يتراوح من الإفساد المؤقت، إذ يحدوه الفضول إلى إفساد كامل دائم
تغلغلت به الهزيمة النفسيَّة لا أهلية المعطيات "الموضوعيَّة" أو جودتها.
لهذا كله، فإننا نَعُدُّ عملية استعادة
المطبخ التقليدي وثراءه؛
عمليَّة جوانية بالأساس، وفي المقام الأول؛ عمليَّة تحرُّر روحي ونفسي، وليست
مُجرَّد استعادة برانية للوصفات التي باد بعضها، أو تنقية موضوعيَّة للمكونات وحسن
اختيارها بناء على طبيعة البيئة ونتاجها واحتياج سكانها. فإنما يتجلَّى البُعد
الروحي والنفسي لهذه العمليَّة المركَّبة في الحاجة المبدئيَّة إلى مُعالجة
العناصر الميتافيزيقيَّة، التي أدى تغييبها إلى انحدار ذائقة الإنسان إلى الإعجاب
بالأسوأ بل التلذُّذ به، وذلك كله أسبق على مُعالجة المكونات وتركيباتها. فما لم
تُدرَك عمليَّة الاستعادة هذه بوصفها عمليَّة ميتافيزيقية جوانيَّة بقدر ما هي
عملية مادية برانية، وبأنها عمليَّة ترقية إنسانيَّة تُعيد الإنسان إلى أصله
المكرَّم (ما قبل الإزراء الحداثي)؛ فلن تؤتي ثمارها أبدا. بل سيتم التعاطي مع
تراث المطبخ التقليدي بوصفه بديلا إجرائيّا فولكلوريّا بين بدائل أخرى "صالحة"،
نَعُدُّ عملية استعادة المطبخ التقليدي وثراءه؛ عمليَّة جوانية بالأساس، وفي المقام الأول؛ عمليَّة تحرُّر روحي ونفسي، وليست مُجرَّد استعادة برانية للوصفات التي باد بعضها، أو تنقية موضوعيَّة للمكونات وحسن اختيارها بناء على طبيعة البيئة ونتاجها واحتياج سكانها. فإنما يتجلَّى البُعد الروحي والنفسي لهذه العمليَّة المركَّبة في الحاجة المبدئيَّة إلى مُعالجة العناصر الميتافيزيقيَّة، التي أدى تغييبها إلى انحدار ذائقة الإنسان إلى الإعجاب بالأسوأ بل التلذُّذ به، وذلك كله أسبق على مُعالجة المكونات وتركيباتها
أو على أفضل تقدير بوصفه "بديلا وطنيّا" يجب أن ننحاز له حميَّة؛ لا كما
يُفترض أصلا بوصفه مُعطى قبليا مُرتبطا بالزمان والمكان والإنسان، وأرضيَّة وحيدة
يجوز البناء على أساسها، وليس توظيفها لرفع البناء على أراضٍ أخرى بأساس قيمي مختل
أو حتى مخالف، وشتَّان!
ولهذا، فقد أجهدنا التفكيك والتركيب، حتى نستطيع أن نستنبط من القيم
الإلهية الحاكمة -التي عبَّرت مقالاتنا السابقة عن بعضها- مُتتالية "إجرائيَّة"
واقعيَّة ومُركَّبة لاستعادة المطبخ التقليدي. وقد وفِّقنا بحول الله إلى تجريد
مُتتالية أوليَّة قابلة للتطوير بمجرَّد الشروع في تطبيقها؛ فإن التنزيل العملي هو
الذي يفتح آفاق تحسُّن الممارسة، واستعادة ما اندثر من تفاصيلها الاجتماعيَّة
والنفسيَّة.
تبدأ هذه المتتالية
بتقليص الإنسان لجوءه إلى طعام السوق والمطاعم، حتى ينقطع عنه؛ فهو
طعامٌ تنعدم بركته إذ لم يُذكر اسم الله عليه، ناهيك عن استحالة ضمان طهارته وحُسن
اختيار مكوناته. فإن اضطُر الإنسان إليه كان ذلك بتناوله طعاما محليّا "شعبيّا"،
يقلُّ التدخُّل في إعداده ويتقلَّص العبث بمكوناته إلى الحد الأدنى، وتنكمش
العمليات التحويلية التي تدخل في صنعه، ثم يضمن كذلك تقوى صانعه.
هذه البداية سيستصحبها الإنسان في كل حين، فهي جهاد لا ينتهي؛ لأن
شهوة الأكل وتزيين طعام هذه المطاعم صنعة تسويقية تكاد تجذبه في كل حين. ثم إنه
بهجره أكل السوق أولا، وجب عليه أن يُثنِّي بالاستغناء بما يطبخه هو
وأهله؛ فليحرص في ذلك على اختيار المكونات المحليَّة التي تُزرَع أصلا في
البيئة التي يسكنها، لا التي تُستورد من خارجها؛ حفظا لبدنه وعقله، مع مُراعاة
حرارة جسده وبرودته عند اختيار
الطعام وحرارة الفصل المناخي أو برودته؛ إذ يجب أن
يتجنَّب أصحاب الأجساد الحارة كافَّة الأطعمة الحارة، خصوصا في الأوقات الحارَّة -والعكس
بالعكس- فإن هذا المركَّب مدعاة للسقم، ومهلكة للبدن. يتلو ذلك اللجوء لطرائق
طبخ (صحيَّة) تُناسب نوع الطعام، والفصل المناخي وأبدان الآكلين، بِنيَّةِ
تحصيل المنفعة والتقوِّي على العبادة.
وتستعمل في هذه العمليَّة المركَّبة الأدوات الطبيعية المتاحة لطبخ
طعام صحي. فلا يُستعمل مثلا الفُرْنُ المُوَيْجِيُّ (الميكروويف) استعجالا؛
فإن كل استعجال في الطبخ مفسدة، ومضيعة للمذاق وللفائدة، فكل طبخة يجب أن تستغرق
وقتها المقدور لتُنضج المكوِّن الأصيل؛ فما بالك إن كان الجهاز أصلا مُسببا
للأمراض والأسقام في تركيبه وبُمجرَّد استعماله، بقطع النظر عما يُسببه باستعجال
الإعداد واختزال وقته الطبيعي.
ثم
يستصحب الإنسان ذكر الله والصلاة على حضرة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- في
كل مرَّة يشرع فيها في طبخ شيء. فإذا كان المؤمن مأمورا بالذكر في كل حين؛
فإنه مأمورٌ به أكثر عند طبخ ما يدخل جوفه من الطعام الحلال، ويُرجى به التقوّي
على الطاعة؛ فإن ذكر اسم الله يُبارَك به كذلك في الطعام ويُنزَع به شره بحول الله
تعالى وقوته.
إفساد الذائقة التدريجي، الذي تفشَّى في أمتنا المنكودة بسبب الإفقار المنظَّم منذ أجيال؛ يجب التغلُّب عليه جوانيّا أولا. فهذا الإفقار الذي يجعل الإنسان يقبل بالرديء رداءة موضوعية، ويُعيد تكييف ذائقته (أي يفسدها بيديه!)، لتقبل به رغم سوءه؛ لا يمكن التغلُّب عليه برانيّا في ظل ضيق ذات اليد، إلا بالتغلُّب عليه جوانيّا أولا
وأخيرا
يجب أن يجتهد الإنسان في نقل خبرة الطبخ هذه -جوانيّا وبرانيّا- من جيل إلى جيل،
تُنقَلُ بالتواتُر كما نُقِلَت الصلاة، وكما نُقِلَ العلم بالحلال والحرام عن حضرة
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإن طعام المؤمن شطر استقامة بدنه وصفاء
روحه؛ ليُحسن الاستجابة لما شرَّع الله تعالى.
* * *
وإن إفساد الذائقة التدريجي، الذي تفشَّى في أمتنا المنكودة بسبب
الإفقار المنظَّم منذ أجيال؛ يجب التغلُّب عليه جوانيّا أولا. فهذا الإفقار الذي
يجعل الإنسان يقبل بالرديء رداءة موضوعية، ويُعيد تكييف ذائقته (أي يفسدها بيديه!)،
لتقبل به رغم سوءه؛ لا يمكن التغلُّب عليه برانيّا في ظل ضيق ذات اليد، إلا
بالتغلُّب عليه جوانيّا أولا. هذا التغلُّب لا يُمكن أن يتحقَّق ابتداء إلا بتغيير
مفاهيم الشبع والجوع، وانضواء تلك التصورات ثانية تحت راية الإسلام. فما لم يُدرِك
المكلَّف أنه مأمورٌ باعتياد النظيف الطاهر في الطعام كما في النكاح، وأن "التخمة"
أو "الامتلاء" الذي يُسميه الناس شبعا؛ ليس هو المأمور به، وأنه يكفيه
لقيمات يُقِمْنَ صلبه -كما في الحديث الشريف- وأن تُخمة بطنه وبطون عياله ليست من
أخلاق الإسلام (فهي مما يصرِف عن العبادة)، خصوصا إن كانت بالرديء المقزز الذي
يحسب أنه "لا يقدر على سواه"؛ فلن يستطيع التغلُّب على هذا الإفقار
وتزكية نفسه بتزكية ما يدخل جوفه.
لقد أُمر المؤمن بمخالفة المشركين في كل شيء، خصوصا فيما يدخل الجوف
من المأكل والمشرب، وأن يختار أزكى ما يُمكن أن يطعم بماله القليل، بنيَّة التقوّي
على العبادة؛ فإن هذا القليل الزكي يكفيه إن شاء الله، ويُبارَك في أثره. فإن
الكائن المكرَّم الذي حُرِّم عليه أكل الخنزير آكل القاذورات، لا يُمكن إن صحَّ
دينه أن يتحوَّل هو نفسه إلى خنزير يأكل القاذورات. والله المستعان.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry