هل تأثر الفريق متقاعد عبد الفتاح
السيسي، طفلا،
بأجواء شارع محمد علي، الذي يفصل بينه وبين "حارة اليهود"، حيث كان
يقيم، شارع واحد هو شارع "الأزهر"؟!
شارع محمد علي كان في أيام مجده، هو شارع
"العوالم" (جمع "عالمة")، وكان سكانه في معظمهم يشكلون فرقا
لإحياء الأفراح والمناسبات السعيدة، على النحو الذي عبرت عنه المسرحية التي حملت
اسمه وقام بدور البطولة فيها الفنان فريد شوقي والفنانة شيريهان!
ولا نعلم كثيرا عن حياة عبد الفتاح السيسي قبل أن يقود
الانقلاب العسكري، وظل ما سبق هذا هو المجهول، فلا نعرف إلا ما ذكره هو عن نفسه في
هذه المرحلة، وهو من الندرة بحيث يفشل معه المرء في أن يعكف على دراسة شخصيته
دراسة أنثروبولوجية. ومما قيل أنه انتقل من حارة "اليهود" مبكرا إلى
"مدينة نصر"، مع الوضع في الحسبان أنه لا يعترف بأنه أقام في هذه
الحارة، ولكنه ينسب نفسه لحي الجمالية الملاصق لها. ولا مشكلة في ذلك فجمال عبد
الناصر أقام في هذه الحارة فترة من عمره!
إذا كان السيسي قد غادر "حارة اليهود" طفلا،
فأعتقد أن تأثره بشارع محمد علي كان من باب "السماع"، فصارت ثقافته تدور
حول الرقص، ليكون أول رئيس يستدعيه إلى عالم السياسة. وقبل عدة سنوات، أراد أحد
المرشحين لعضوية مجلس نقابة الصحفيين، من أهل الجنوب، أن يقدم دعاية مختلفة،
فاصطحب معه "الطبل البلدي" أمام النقابة في يوم
الانتخابات، فكانت دعاية
سلبية ضده، أثارت استهجان الجماعة الصحفية، فلم يحصل على أصوات تذكر، رغم أن
الدعاية بهذا الشكل انتهت سريعا، وغادرت "الفرقة" المشهد بعد الاحتجاج
على هذا الأسلوب. ولم نكن نعلم أن الزمن سيدور دورته، ليصبح الأمر له علاقة بدعاية
من يتولى أعلى سلطة في البلاد، حتى صار الأمر معتمدا رسميا، ويُعرف من حكمه
بالضرورة!
في كل مناسباته، يكون الاحتفال بهز الوسط وبالطبل
البلدي، ولا توجد مناسبة سياسية انتصب فيها الخطباء ليتحدثوا عن البطل المغوار، أو
المرشح الهمام، أو عن إنجازاته، أو بتقديم كشف حساب عن المرحلة التي قضاها في
الحكم، كما يحدث في كل انتخابات، بما في ذلك انتخابات المجالس البلدية!
في مدينة إمبابة بمحافظة الجيزة، دعا نواب المنطقة
لمؤتمر تأييد للسيسي، فكان ما تم بثه هو قيام السادة النواب، بعد أن تم حملهم على
الأعناق، بوصلة رقص على أغنية من أغاني المرحلة؛ الأصل فيها أنها أغنية عسكرية أو
وطنية، لكن إيقاعها، يبعث على الرقص، تماما مثل الأغاني الشعبية، من أول:
"النهارده فرحي يا جدعان"، إلى أغنية "اركب الحنطور وأتحنطر"،
مرورا بأغنية "العنب"، و"أنا كنت بحب المانجا دلوقتي بحب الخوخ"!
وهو المشهد الذي تكرر فيما سمي
بالانتخابات الرئاسية بالخارج، إذ تحول المشهد إلى "فرح بلدي"، وكأنها
زفة العالمة لواحظ بشارع محمد علي لابنتها ليلة دخلتها!
هل نقيم ما جرى وفق قواعد الانتخابات، أم وفق تقاليد
أفراح الأزقة وختان الأنجال؟!
يدهش المرء عندما يقال إن ما جرى من شحن الناس وتفريغها
أمام السفارات (في دول الخليج بالذات عدا قطر) يأتي رسالة للغرب، وبهدف إدخال الغش
والتدليس عليه، ولإثبات أن عبد الفتاح السيسي لا يزال هو "الرئيس
الضرورة" عند
المصريين، وأنهم لا يزالون يعتبرونه المنقذ، وكأن البشرية عرفت
الانتخابات حديثا، ليمكن بصور الرقص والطبل والزمر، التعبير عن الجدية، وعن أجواء
انتخابية فعلا!
ما جرى لا يعدو إلا أن يكون "زفة بلدي"، لا
شأن لها بالانتخابات، ولا علاقة لها بالديمقراطية. فالعالم لم يخترع الانتخابات
حديثا، ومصر لم تتعرف على الانتخابات الآن، وهي وإن كانت انتخاباتها لم تكن نزيهة
إلا في مرات قليلة، إلا أنها كانت دائما تقوم باستيفاء الشكل، فلا دعاية أمام
اللجان، ولا خروجا عن شكل الانتخابات كما يعرفها العالم!
وإذا كان القوم صاروا مشغولين فعلا بالانتخابات، فقد
شهدت مصر انتخابات رئاسية وبرلمانية، واستفتاء على الدستور، كان فيه الحضور
الجماهيري يليق بحضارة السبعة آلاف سنة، ويعد ما جرى بعد 2013 وإلى الآن عودة إلى
طفولة البشرية، لدولة لم تجرى فيها انتخابات من قبل ولم تسمع بتقاليد العملية
الانتخابية!
إذا تجاوزنا البداية الفاسدة لما يسمي بالانتخابات
الرئاسية حيث لم تتوافر فيها أية ضمانات للحق في الترشح فضلا عن الحق في الانتخاب،
فان ما جرى من رقص وغناء أمام السفارات ينسف أي معنى لوجود انتخابات، فالقانون يحظر
الدعاية أمام اللجان الانتخابية، فضلا عن منع الدعاية في حالة الصمت الانتخابي،
فتمت الدعاية داخل السفارات وأمامها، لمرشح وحيد، ونحن نعلم أن المرشح ضده هو خيال
مآتة، إنما كان ينبغي أن يحرصوا على الشكل، لكن لأن الرسالة مستهدف بها "ابن
حظ"، فقد كان "الهشك بشك" هو أداة التعبير عن المرحلة. وفي السفارة
في الأردن، كان الطبل البلدي حاضرا، فأي رسالة أريد توصيلها للغرب؟!
الحضور الذي شاهدناه عبر السوشيال ميديا ليس حاشدا، ولو
في دول الحصار، فعندما يكون عدد المصريين في السعودية أربعة ملايين، ومن لهم حق
التصويت لا يقلوا عن ثلاثة ملايين ثم يحضر العدد الذي شاهدناه، فليس هذا حضورا
حاشدا، وأعتقد أن الحضور الحقيقي هو ما جرى في سفارة مصر بالدوحة وهم مجرد عشرات
الأفراد. ثم إذا استبعدنا صندوق الانتخابات في هولندا، والذي كان صندوق لجمع
القمامة، فإن ما ظهر من الصناديق الزجاجية يقول إن من صوتوا هم عشرات، بحسب الظاهر
من أوراق التصويت في هذه الصناديق!
لقد نُشر أن السفارة المصرية في الكويت أذاعت أن كل من
له أوراق لدى السفارة فعليه استلامها في اليوم الأول للانتخابات، وإلا فلا أوراق
له، كما أن مصريين يديرون أعمالا في السعودية شحنوا من يعملون عندهم للسفارة، وقد
ظهر جليا أنه تم وقف التصويت لإظهار الطوابير طويلة، أو لإظهار الحشود كثيفة في
القاعات المغلقة، لكن لا حضور في السفارات المصرية في الغرب، والحضور في بعض
القنصليات في واشنطن، كان بشحن كنسي واضح!
ومهما يكن، فإن
عملية الشحن لم توفر أعدادا كتلك التي حضرت في انتخابات الثورة، وذهبت أصواتها للأربعة الكبار.
وكان الرئيس مرسي حصل على أعلى الأصوات (107) آلاف و(924) صوتا، وكان الثاني هو عبد
المنعم أبو الفتوح (83) ألفا و(436) صوتا، في حين حصل حمدين صباحي على (47) ألفا و(687) صوتا، وحصل أحمد شفيق على (24) ألفا و(542) صوتا!
إن
ما جرى لا يمت للانتخابات بصلة، فإذا قيمناه وفق قواعد الأفراح والموالد وجدنا
أنفسنا أمام إشكالية، مهمة، فيقال في الرقص وفنونه "هز الوسط"، وما
شاهدنا كان "هز الكرش"، وإذا قبلنا هذا ممن يعشن في دول الخليج حيث نمط
المعيشة يسمح باختفاء "الوسط" وظهور "الكرش"، فالحياة فيها
أكل ومرعى وقلة صنعة، يظل المدهش أن اختلال التضاريس سمة أيضا لمن هن في بلاد
الفرنجة، وإذ شاهدنا منهن من تستخدم اليدين في الإساءة والردح، فقد أدهشتنا أكثر هذه
الأصالة، والحفاظ على قيم البيئة التي لم تؤثر عليها المعيشة الجديدة، ورغم أن
بيئتها السابقة لم تعد تتعامل بمنطق "كيد العوازل"، أو يا "عوازل
فلفلوا"!
إذا
استبعدنا أنها سلوكيات انتخابية، فسنجد أنفسنا أمام تشويه حتى لزمن شارع محمد علي،
فما هكذا كانت "العوالم"، جمع "عالمة"!