ليست مصادفة أن يكون أول ما نزل من
القرآن أمره جل شأنه للنبي صلى الله عليه وسلم، والإنسانية من بعده؛ بالقراءة والتعلُّم. وليست مُصادفة كذلك أن تُختتم السورة نفسها بالأمر بالسجود. أليس أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد؟ (راجع سورة العلق).
لكن ما علاقة التعلُّم والتفقُّه (بمعناه الواسع) بالسجود؟
تبدأ السورة بالأمر بالقراءة والتعلُّم، لكنها تربط عملية طلب
العلم هذه، ومنذ اللحظة الأولى؛ بالله. تربطها بالخالق. خالق الإنسان، وخالق الكون، وخالق القلم. خالق كل شيء. فأنت تقرأ وتتعلم باسم الله الذي "...علم آدم الأسماء كلها"، ورفع درجته، وفضَّله على كثير ممن خلق. إنه علمٌ تستمد العون عليه من الله ابتداء، ولذا فهو مشروط بشرط عملي: أن ينفع الناس"... وأما ما ينفع الناس فيمكُث في الأرض". أن ينفعهم نفعا حقيقيّا بالمعايير الإلهية. ينفعهم في سلوك دربه والعروج إليه سبحانه، وإلا صار "زَبَدا" لا قيمة له.
ثم يُذكّر الله بني آدم بالمنشأ الصغير الساذج التكوين: العلق؛ النقطة الدموية العالقة بالرحم، التي صارت برحمة الله وكرمه كائنا في أحسن تقويم. وهو ملمح من ملامح كرمه جل شأنه، إذ يرفع قدر هذه العَلَقَة إلى إنسان مؤهَّل للتلقي عنه سبحانه تلقيّا يسمو به على سائر المخلوقات. وإنها لنقلة بعيدة بين المنشأ والمصير كما يقول صاحب الظلال. والكرم لا يتجلى في هذه النقلة البعيدة فحسب، بل في فضل الله على الناس، إذ يفتح لبعضهم أبواب فقه هذه العملية الدقيقة. ثم تعرج السورة على دور القلم، إذ هو مُكمِّلٌ متوقع للأمر بالقراءة والتعلُّم؛ فالقلم أهم أدوات التعلُّم وأعمقها أثرا في حياة الإنسان ومآله. لكن الكتاب العزيز لا يكتفي بهذا.
يقول صاحب الظلال: "ثم يبرز مصدر التعليم. إن مصدره هو الله، منه يستمد الإنسان كل ما علم، وكل ما يعلم، وكل ما يُفتَح له من أسرار هذا الوجود، ومن أسرار هذه الحياة، ومن أسرار نفسه. فهو من هناك. من ذلك المصدر الواحد، الذي ليس هناك سواه. وكل أمر، كل حركة، كل خطوة، كل عمل باسم الله، وعلى اسم الله. باسم الله تبدأ، وباسم الله تسير وإلى الله تتجه، وإليه تصير".
لكن الإنسان الذي تلقى علمه من الله ينسى، ويكفُر النعمة. وكما أبطرت النعمة قارون؛ فقال: "إنما أوتيته على علم عندي"، قد يطغى الإنسان بعلمٍ فتح الله أبوابه، ويسَّر سُبله، ومهَّد طرائقه. وهذا الطغيان لا يصدر من فراغ. إن فيض العطاء يُنسيه نفسه وأصله، ويُشعره بالاستغناء، ولا يطغى إلا الغني؛ من استغنى بنفسه عن غيره، أو من ظن بنفسه الاستغناء بالعطاء؛ فغفِل عن المعطي. وكما يكون الطغيان في المال والسلطة كذا يكون في العلم والمعرفة، وهما أولى. إذ تُدير الفتوحات العلمية والمعرفية رأس الإنسان، ويظُن بعقله الكفاية، ويظن أنه استغنى بعقله وبما فُتح له عن الهدى الإلهي المنزَّل. فهل يتركه القرآن بغير تذكرة بعد "أن رآه استغنى"؟ كلا؛ بل يتلوها مباشرة بالتنبيه والإنذار: "وأن إلى ربك الرجعى".
ستعود إلى الله الذي خلقك وكرَّمك وعلَّمك؛ ستعود مرة أخرى لتُسأل عما أحدثت. ستسأل عما فعلت بما عُلِّمت. لن تُختبر في حجم ما عُلمت؛ بل ستُسأل فيم عَمِلتَ بعلمك. وتعرض الآيات التالية نموذجا للطغيان: "أرأيت الذي ينهى... الآيات"، التي نزلت في أبي جهل؛ وهي تتكامل وتنسجم مع هدف السورة بجملتها. ويختتم عرض نموذج الطغيان بوعيد صريح، وليس مُجرد إدانة أو تحذير: "فليدعُ ناديه؛ سندع الزبانية". قال ابن عباس: "ولو دعا ناديه؛ لأخذته ملائكة العذاب والناس ينظرون".
وبعد هذا التحييد لقوى الطغيان من خلال وعيد صريح؛ تختتم السورة بآية في غاية الكثافة. أمرٌ مباشرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده: "كلا لا تطعه واسجد واقترب". يقول ابن كثير: "يعني يا محمد لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها، وصل حيث شئت ولا تباله؛ فإن الله حافظك وناصرك، وهو يعصمك من الناس".
إن العبادة شُكر المسلم على ما علَّمه الله، واستعانة منه على ما استخلفه فيه؛ إنها جوهر القراءة باسم الله وقلبها. لهذا، كان من الطبيعي أن تختتم السورة بالسجود؛ ذروة العبادة. فالسجود هنا ليس رمزا لكنه أداة عملية. إنه أداة عملية في الاستعانة بالله، خالق النفس وخالق الكون وخالق الناس؛ استعانة على طغيان النفس واستغنائها ونسيانها، ورحلة تهذيب لها حتى تخلُص لله. إن السجود هنا هو قمة العلم وقمة المعرفة. فهو ليس مجرَّد رد "نظري" لكل المعرفة إلى الله، واعتراف شفاهي بفضله، بل هو قُربٌ حقيقي من مصدر المعارف كلها. قُرب افتقار وامتثال وعرفان. وفيه يتجلى طلب العون على النفس وعلى الكون وعلى الناس وعلى كل مشقَّات تمثُّل المعرفة والحياة وفق هذه المعرفة.
إن الشرط الوحيد لفعالية المعرفة القرآنية هو أن تبدأ باسم الله، وأن تنتهي برد الأمر كله إلى الله... أن تقودك المعرفة إلى السجود. حقيقة لا مجازا.