لا يمكن تجاوز "انتفاضة
المترو"، التي وقعت يوم السبت الماضي، احتجاجاً على قرار السلطة في
مصر برفع أسعار التذاكر بشكل جنوني، وعلى أساس أنها كانت "زوبعة في فنجان"، ولكونها انتفاضة اليوم الواحد!
فلأول مرة منذ الانقلاب العسكري الذي جرى في تموز/ يوليو 2013، يجري التمرد على قرار لأهل الحكم على هذا النحو، ويكون الهتاف ليس ضد الحكومة أو وزير قرر التصرف على قاعدة "صبيان المعلم"، في ثقافة تجار "الممنوع"، فقد
كان الهتاف ضد شخص عبد الفتاح السيسي، ليكون هذا هو التعبير الواضح ضد من ظن أنه نجح في إدخال الغش والتدليس على الناس، بخطابه العاطفي المثير للملل لتكراره!
ولم تكن هذه الرسالة الأولى للجماهير، فقبل قليل خذل بسطاء الناس عبد الفتاح السيسي كما خذلته النخبة، فلم يذهبوا لصناديق الانتخابات رغم التهديد والوعيد، ولم يمكنوه من "طابور" واحد في طول القطر المصري وعرضه؛ يمكنه من أن يباهي به الأمم، ويوحي للعالم الخارجي بأنه لا يزال "معبود الجماهير"، ومن خضع للتخويف ذهب ليبطل صوته، فكنا أمام رقم خرافي للأصوات الباطلة في تاريخ الانتخابات، حيث بلغت هذه الأصوات مليوني صوت، في حين أنها كانت في الانتخابات الأخيرة لمبارك 200 ألف صوت فقط، وقد كتبت حينئذ أن العدد ضخم وله دلالته!
من المؤكد أن السيسي لم يكن ليتراجع بعد انتفاضة ركاب المترو؛ لأن قرار رفع أسعار
التذاكر تم استجابة لتعليمات
صندوق النقد الدولي، وهو إجراء له ما بعده. فلكي يستوفي شروط أقساط القرض لا بد أن يرفع الدعم كلياً، والمعنى أن هناك موجة من ارتفاع الأسعار على كافة السلع والخدمات خلال الأسابيع المقبلة. وقرار رفع أسعار تذاكر المترو هو صفحة في كتاب، والاستجابة للضغوط الشعبية معناه ألا يقدم على الخطوات التالية، وهو ليس معنياً بالشعب، ولكن ما يشغله هو شرعيته، والتي حصل عليها خارجياً بأن يكون عند حسن ظن المؤسسات الدولية، ولو أكل المصريون لحوم البشر!
السيسي يدخل في معركة مع المصريين، ومنهم من ظن أن "تحت القبة شيخ"، من زخم الدعاية البلهاء التي دارت حول أن الحكم لا يصلح له سوى عسكري، وأن مصر تحتاج إلى دكر، وأن الدكر واحد فقط من بين المصريين، هو عبد الفتاح السيسي، فكانوا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه!
كان يمكن للسيسي ألا يقدم على هذه الخطوة ويستعدي قطاعا كبيرا من المصريين؛ ربما لم يكن له علاقة بالسياسة ويهمه الاستقرار مع توافر القدرة على القيام بأعباء الحياة، ولكنه عدم التوفيق الإلهي!
ليس صحيحاً أن أهل الحكم مضطرين لرفع سعر التذاكر، وبحجة أن مترو الأنفاق يخسر، فقد كانت هيئة الأنفاق تحقق أرباحاً في عهد مبارك، وبعد الثورة رغم الفوضى الأمنية. لكن ما حدث أنه جرى تمكين إدارة فاشلة منه، برئاسة أحد الجنرالات، وباعتبار هذا المرفق هو "الدجاجة التي تبيض ذهباً"، وقطاع النقل تمت عسكرته لهذا السبب، فمئة من الجنرالات يتقاضون 50 مليون جينه سنوياً من هذا القطاع!
وهناك انعدام للشفافية، فلا يتم الإعلان عن رواتب ومخصصات رئيس مجلس الإدارة والأعضاء، وكذا رواتب ومخصصات شرطة النقل والمواصلات، كما لا يتم الإعلان عن الإيرادات. ويوجد تضارب في تصريحات المسؤولين حول أعداد ركاب المترو، فهناك من صرح بأنهم ثلاثة ملايين يوميا، وهناك من قال بخمسة ملايين في اليوم الواحد، وهو تضارب يهدف إلى التغطية حتى لا يمكن للشعب أن يعرف حجم الإيرادات على وجه اليقين!
عدم التوفيق الإلهي يمكن للمرء أن يقف عليه من أن المصريين يمكن كسبهم بالقليل من الإنجازات، وهذا كان في مقدور السيسي، فلا يوجد حاكم قبله حصل على هذه المبالغ من المساعدات والقروض الدولية والإقليمية، وكان يمكنه أن يستغلها في الإبقاء على الدعم، لكنه لم يفعل؛ لأنه اختار دولته وانتهى الأمر، فشعبه هم القضاة، والضباط، والنواب، والدبلوماسيون، إلى جانب أعضاء حكومته بطبيعة الحال، فرفع رواتبهم، وذهب ليسترضي الخارج، فيكفيه أن يتم منحه الشرعية مختومة بختم البيض الأبيض، عبر البوابة الإسرائيلية، وهو ليس في حاجة للشعب؛ لأن الانصياع للمؤسسات الدولية، ومنها
صندوق النقد، يستدعي بالضرورة فقدانه للتأييد الشعبي، وما تبقى منه!
المصريون لا يطلبون من حاكمهم لبن العصفور، وقد كان الاستقرار الاقتصادي في حده الأدنى في عهد مبارك، مما يمنع اتساع دائرة الغضب، فلم تكن الديمقراطية والعدالة مما يشغل عوام الناس من غير المسيسين، لكن الأمر اختلف عند موجة للغلاء لم يتحملها الناس في عام 2004!
قبل هذا، كان من يهاجم الحكم في وسائل النقل العامة لا يجد من يؤوب معه، لكنه قد يجد حملة هجوم ضده، باعتبار أن الرئيس يفعل ما عليه.. وما عليه مرتبط بتوافر الحد الأدنى من المعيشة شبه اللائقة، لكن بعد موجة الغلاء هذه، وقد شاهدت رجلاً مسناً يلعن النظام بصوت غاضب مرتفع، أيقنت أن مبارك خسر كثيراً، وهذا ما حدث يوم السبت الماضي. فالهجوم على شخص السيسي كان من أناس لا شأن لهم بالسياسة، ولأنه مس حياتهم بشكل مباشر، فخرجوا في تحد لآلة القمع التي يحكم بها، وهي انتفاضة لها ما بعدها!
فرفع سعر تذكرة المترو، سيتبعه قرارات برفع أسعار الخدمات الأخرى، مثل الكهرباء والوقود وما إلى ذلك، والذين تمردوا ولو ليوم واحد، سيواصلون التمرد؛ لأن الأمر له علاقة بعدم القدرة على الوفاء بالمطلوب منهم، وبعجزهم عن تدبير نفقات المعيشة، وهذا يأتي في مرحلة القلق التي يعيشها النظام الحاكم!
فليس في نية السيسي أن يغادر بعد انتهاء هذه الدورة، ولكنه سيقدم على تعديل الدستور، بما يمكنه من الاستمرار، وهو أمر بحاجة إلى موافقة أمريكية، قبل العرض على البرلمان، وعلى الاستفتاء الشعبي، فماذا لو صدرت الدعوة للنفير العام إلى لجان الاستفتاء للتصويت بـ"لا"، لا سيما وأن هناك خوفا من حضور دولة مبارك في المشهد، وبالشكل الذي دفع "ياسر رزق"، كاهن الفرعون، أن يصدر تحذيراً لجمال مبارك بأن يلزم بيته! وفي مقال يُقرأ من عنوانه: "القلق على مستقبل الحكم..."؟!
إنها انتفاضة لها ما بعدها.