(1)
بعد عراك نشب
بين مشاركين فيها وتدخل من عناصر من حماس، كما أفادت مصادر وشهادات، انفضت مسيرة
في قطاع غزة كانت تطالب برفع العقوبات عن القطاع وإنهاء الانقسام. وقد سبق هذه
الحادثة بأقل من أسبوع قمع السلطة الفلسطينية في مدينتي رام الله ونابلس لمسيرتين
كانتا تطالبان برفع العقوبات عن غزّة، وبعدما سجّلت السلطة في مرماها - بقمعها
للمسيرتين - هدفا لصالح حماس، فإنّ هذه الأخيرة، وعلى ما يبدو، عانت من خلل أفقدها
ما أكسبها إيّاه خطأ السلطة الفاحش في قمع مسيرتي الضفة.
ثمة سياقات
طويلة، وملابسات كثيرة، ينبغي الاحتكام إليها حين المحاكمة بين السلوك السلطوي
لحركة فتح والسلطة الفلسطينية منذ تأسيس الأخيرة أو من بعد الانقسام الفلسطيني،
وبين السلوك السلطوي الطارئ لحركة حماس من بعد الانقسام، إذ لم يكن لحماس سابق
تجربة سلطوية قبل ذلك.
تركّز مشروع حركة حماس داخل قطاع غزّة، إذ في هذه المنطقة فقط تمكنت من الحفاظ على مكتسبها السياسي المنبثق عن الانتخابات التشريعية، وعلى مكتسبها المادي التسليحي المقاوم المؤسس على ما أفضت إليه انتفاضة الأقصى في غزّة
هذه المحاكمات،
وإن حمّلت حركة فتح الكثير من المقدّمات التأسيسية التي وصلت بالقضية الفلسطينية
والعلاقات الوطنية الداخلية إلى مخاطرها الفادحة الآن، وإن انحازت لمظلومية حماس،
بالإضافة لانحيازها لخطّها المقاوم وما تجسّده من محاولة أخيرة للتصدي للمشروع
الصهيوني، وتجربة مقاومة تنطوي على الكثير مما يثير الإعجاب بالنظر إلى صعوبات
المقاومة في فلسطين.. إلا أنّها في المقابل سوف تدين حماس في الكثير من الأخطاء في
تجربتها السلطوية، أو حتى في انعكاس التحولات العميقة التي مرّت بها الحركة على
بنيتها التنظيمية الداخلية.
منذ الانقسام
الفلسطيني، والذي تحوّل من منافسة وخصومة بين الفصيلين الرئيسين في فلسطين؛ إلى
انقسام بنيوي جغرافي يستند إلى الفصل القهري الذي أوجده الاحتلال بين كل من الضفة
الغربية وغزّة.. تركّز مشروع حركة حماس داخل قطاع غزّة، إذ في هذه المنطقة فقط
تمكنت من الحفاظ على مكتسبها السياسي المنبثق عن الانتخابات التشريعية، وعلى
مكتسبها المادي التسليحي المقاوم المؤسس على ما أفضت إليه انتفاضة الأقصى في غزّة.
في المقابل،
كانت نتائج انتفاضة الأقصى والانقسام في الضفة على حركة حماس مختلفة تماما،
لاستمرار وجود الاحتلال في الضفة الغربية، واختلاف موقفه الاستراتيجي والأيديولوجي
تجاه كل من الضفة وغزّة، وذلك رغم النتائج الضخمة التي حققتها حماس في الانتخابات
التشريعية في الضفة الغربية، ومساهمتها الكبرى انطلاقا من الضفة في الانتفاضة
الثانية، في حين تراجعت مكانة فرع الخارج، ولا سيما بعد التحولات في الإقليم
العربي، وتعاظم مكانة فرع غزّة. بيد أن ذلك كلّه لم يؤثر على الإجماع في حماس،
حيثما كانت فروعها، على ضرورة حماية مشروعها في غزّة، ومنحه الأولوية في ممكنات
الحركة وقدراتها، وفي خياراتها السياسية.
(2)
هذه التحولات، والتغير
في التوازنات الداخلية، والضغوطات الثقيلة التي تعرضت لها حماس، وإحكام الحصار حول
الحركة وتجربتها في غزة وانغلاق الأفق في اتجاه تجاوز هذه الأزمة المستحكمة..
أخلّت أحيانا بقدرة الحركة على امتلاك نظرة محيطة بمجمل الأوضاع والمصالح والظروف
المتعلقة بالحركة نفسها أو بالقضية الوطنية، وبما يتجاوز ظرف الحركة في قطاع غزة،
وهذا يحيل إلى السلوك الأمني الثقيل الذي واجهت به الحركة في بعض الأوقات فعاليات
معارضة لها في قطاع غزّة.
التحولات، والتغير في التوازنات الداخلية، والضغوطات الثقيلة التي تعرضت لها حماس، وإحكام الحصار حول الحركة وتجربتها في غزة وانغلاق الأفق في اتجاه تجاوز هذه الأزمة المستحكمة.. أخلّت أحيانا بقدرة الحركة على امتلاك نظرة محيطة بمجمل الأوضاع والمصالح
يمكن أن يستخدم
هذا التحليل كذلك لتفسير ما جرى أخيرا، إذ لم تُقدّر عناصر حماس التي تدخلت في
العراك المشار إليه، ولا من دفع بها.. حجم الخسارة التي يمكن أن تتكبّدها الحركة
حينما تستنسخ سلوكا مشينا مارسه خصمها السياسي قبل أيام، وتحتفظ تجاهه الذاكرة
العربية الراهنة بمواقف بالغة الإدانة، بعد ما عاينته منه في أحداث الثورات
العربية. وعدم التقدير هذا ناشئ إلى حد كبير على حدود النظرة التي تفتقر إلى
الإحاطة وتقتصر على الظرف الذاتي لأصحابها.
ومع أن حركة
حماس حاولت احتواء الموقف وتصحيح الخطأ، فإنّها - بحسب ما تقول بعض المصادر - كانت
قد اتخذت قبل ذلك قرارا بعدم التعرض للمسيرة، وهو ما يعني أن الذين تدخلوا من
عناصرها في العراك الذي جرى كما قيل بين أنصار كل من الرئيس عباس وخصمه محمد
دحلان، قد فعلوا ذلك بخلاف القرار التنظيمي للحركة، الأمر الذي يشير إلى خلل غير
مسبوق في ضبط العناصر، أو في وجود مراكز نفوذ داخل الحركة دفعت بتلك العناصر بخلاف
القرار التنظيمي.
حينما نتحدث عن
سلوك أمني ثقيل، أو خطأ اقترفته حماس كبير، لا نعني أنه ثقيل أو كبير بالنسبة إلى
سلوك فتح والسلطة المناوئة لحماس، وإنما نعني أنّه كذلك بالنسبة إلى ما ينبغي أن
تكون عليه حركة حماس، بصفتها حركة مقاومة، وحركة يفترض أن تقدم بديلا كاملا لكل
النمط الفتحاوي، وأداء يرقى إلى مستوى التحدي الذي يمثله الاحتلال وخصوم تجربتها،
هذا بالإضافة لكونها عانت من القمع السلطوي الفتحاوي، ولم تزل، وتنتمي إلى تيار
كبير في الأمة يدّعي الأفضلية على كل التجارب السابقة عليه، وهي في العموم تنتمي
إلى تيارات الإصلاح والثورة والتحرر.
حينما نتحدث عن سلوك أمني ثقيل، أو خطأ اقترفته حماس كبير، لا نعني أنه ثقيل أو كبير بالنسبة إلى سلوك فتح والسلطة المناوئة لحماس
(3)
هذه الحركات
وبالإضافة لدعواها الكبيرة، إن في نقدها لمخالفيها أو سعيها لتقديم البديل أو
تصنيفها لنفسها، تنهض في الأساس على تضحيات هائلة، يُفترض أن تزوّدها برصيد أخلاقي
يحول دون أن يستحوذ على أي أحد فيها تصوّر بإمكانية التصرف وكأنه يمتلك الحركة، سواء
كان عنصر أمن، أو جناح قوة، أو مركز نفوذ، أو فرعا مناطقيّا، أو قيادة، أو سوى ذلك..
هذا الرصيد الأخلاقي مكون في أصله من تضحيات أبنائها، الشهداء، والأسرى، وكل من
عانى فيها، إذ من ذا الذي يمكنه أن يتخيل أنه يمتلك حركة صارت بهذا الحجم، ومنحته
هذه الفرصة، بفضل كل ما بذل في مسيرتها من دم وعرق ووجع وفقر وفاقة؟!
من هذا الذي
يمكنه أن يعدّل على خطّها السياسي، وهو لا يستطيع أن يعيد الشهداء ليستفتيهم من
جديد؟ ومن ذا الذي وهو يقود حركة بهذا الحجم، أو وهو يحوز قدرا من النفوذ فيها
مهما كان حجمه، يمكنه ألا يضع في حسبانه كلّ عنصر قد يُسحق لأجل مشروعها، أو قد
ترتفع الحركة بشيء من فعله وجهاده ونضاله؟!
حتى الآن، ما
تزال المحاولات التنظيمية والإدارية لم تقترب بالشكل الكافي من الترتيب الذي يحقق
أكبر قدر من العدالة في تمثيل كواردها وعناصرها كلّهم، والاستفادة منهم، والحفاظ
عليهم، وتعزيز صمودهم، واستثمارهم خارج منطق الاستزلام والزبائنية والشللية وما
سوى ذلك من أمراض تنظيمية، وللحفاظ على كل ما بذل في الحركة من تضحيات.
ما تزال المحاولات التنظيمية والإدارية لم تقترب بالشكل الكافي من الترتيب الذي يحقق أكبر قدر من العدالة في تمثيل كواردها وعناصرها كلّهم
إلى حدّ كبير،
تتمتع الظروف الموضوعية الأمنية الخاصة في الضفة، وظروف الانفصال القهري بين أماكن
وجود الفلسطينيين، والضغط الهائل الذي تعانيه غزّة وهي تتصدّر مشروع المقاومة
اليوم؛ بالدور الأكبر المعيق للأفكار الضرورية لحماية الحركة من الأمراض التنظيمية
والحفاظ على تضحيات أبنائها وتمثيلهم واستثمارهم بعدالة.
حماس، كأيّ تجربة بشرية كانت دائما، وستظلّ، عرضة للأمراض التنظيمية، بما فيها تلك التي كانت تحذّر منها دائما في أدبياتها الداخلية، شأنها شأن كل الإسلاميين
ومع كون الحركة
سرّية في الكثير من جوانب عملها، وتتعرض باستمرار لاختلالات في توازناتها
الداخلية، وإخفاقات في خياراتها السياسية أو في تجاوز ما يعرض لها من عقبات،
فإنّها دائما معرضة لبروز من يتصرف وكأنّه يملكها، أو لا يراعي جوانب أخرى من
مصالحها، أو أبعادا أرحب في مشروعها ودورها ووظيفتها، أو بشرا آخرين ساهموا في
صياغتها وبنائها وارتبطوا بها من كل وجه، وصارت من جهة ما معنى وجوههم.
إنّ حماس، كأيّ
تجربة بشرية كانت دائما، وستظلّ، عرضة للأمراض التنظيمية، بما فيها تلك التي كانت
تحذّر منها دائما في أدبياتها الداخلية، شأنها شأن كل الإسلاميين الذين تنتمي لهم وتستخدم
أدبياتهم. وقد أثبتت التجربة الإسلامية الحركية المعاصرة أن الممارسة كثيرا ما
تقصر عن الأدبيات، وبعض ما ذكرناه هنا، لم يكن وليد الانقسام أو التحولات التي جرت
الإشارة إليها، بما في ذلك بروز الذين يتصرفون وكأنهم يمتلكون الحركة، وإنما
تفاقمت هذه المشكلة بعد ذلك، وبرزت فيها مظاهر جديدة.
ما تزال حماس
مهمة للقضية الفلسطينية، وما راكمته مكسب لكل الفلسطينيين، وفي تجربتها في غزة ما
يثر الإعجاب ويدعو للحفاظ عليه، وهي ليست ملكا لعناصرها فحسب، بل للكثيرين في
فلسطين والأمة ممن يعولون عليها أو يجدون في بعض جوانب فكرها أو ممارستها أنفسهم
وآمالاهم، وهي فوق ذلك تنعكس أفعالها على غيرها، سواء في فلسطين أو في الأمّة،
وهذا يجعل للجميع نصيبا فيها.
ذلك بقدرِ ما
يستدعي نصرتها يستدعي نقدها إن أخطأت، وبما أن مشروعها يتركز اليوم في غزة، فإن
الذي يجد نفسه في الموقع الطليعي، ومهما قدّم من تضحيات أو
تعرض للخذلان أو وجد نفسه وحيدا في كثير من المرات، فلا بدّ وأنّه يدرك أن العبء عليه
أكبر في تصحيح الأخطاء، وبقدر ما يمليه حجمه وموقع ودوره التاريخي.