كتاب عربي 21

لماذا من المهم الوقوف مع الجرائم الإسرائيلية الأخيرة في لبنان؟!

ساري عرابي
"لا يمكن للضحية أن تُقَيِّد بنحو حتميّ فعل الإسرائيلي بالالتزام بقواعد اشتباك أو عدم استهداف المدنيين أو عدم اقتراف المجازر الواسعة"- جيتي
"لا يمكن للضحية أن تُقَيِّد بنحو حتميّ فعل الإسرائيلي بالالتزام بقواعد اشتباك أو عدم استهداف المدنيين أو عدم اقتراف المجازر الواسعة"- جيتي
استشهد من اللبنانيين الآمنين في مساكنهم المدنية، في عدد قليل من الساعات في يوم واحد، 492 شخصا منهم 35 طفلا و58 امرأة، وأصيب 1645 آخرون، في إحصائية أوّلية بالتأكيد، من شأن أرقامها أن ترتفع مع استمرار القصف الإسرائيلي على القرى والبلدات اللبنانية، الذي يُذكّر بالنمط نفسه من القصف الذي انتهجه الإسرائيلي في إطار حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين داخل قطاع غزّة، والذي عُرِف بالأحزمة النارية، وكان أشبه بالقصف المساحي الذي يتقصّد تدمير مساحات واسعة دفعة واحدة، بهدف تهجير السكان المدنيين، وفرض الاستسلام على المقاتلين، والتمهيد للدخول البري، وهو ما كان يغطيه بادعائه العمل على تدمير القدرات العسكرية لحركة حماس.

بضع ساعات في لبنان كلّفت اللبنانيين شيئا من ساعات الغزّيين اليومية مطالع هذه الحرب الدائرة عليهم، وجعلت حرب تموز/ يوليو 2006 على لبنان، بالرغم من عنفها البالغ وعدوانيتها المتوحشة واتخاذها نموذجا ترهيبيّا (عقيدة الضاحية)؛ أشبه بالحرب الصغيرة بالقياس إلى القصف الأخير الذي نقصده في هذه المقالة، فعدد شهداء هذا القصف هو نصف عدد شهداء حرب الـ34 يوما (تموز 2006) وعدد الجرحى أكبر، وهذا كله في قصف ساعات في يوم واحد (23 أيلول/ سبتمبر 2024)، إذ إننا لا نعني بهذه الأرقام الضحايا اللبنانيين منذ بداية الجبهة اللبنانية لإسناد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة والممتدة منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

لا ينبغي، والحالة هذه، فصل المجازر الأخيرة عن عملية تفجير أجهزة البيجر واللاسلكي في يومي 17 و18 أيلول/ سبتمبر، فقد كانت تلك التفجيرات تهدف إلى قتل بضعة آلاف دفعة واحدة، وهي بالفعل أدّت إلى آلاف الإصابات الخطيرة، بعضها عمى وبتر أطراف، وفي حين أنّه لا يمكن للإسرائيلي الزعم أنّ تلك الأجهزة كانت بحوزة مقاتلين فحسب، فقد كشفت الفيديوهات والمعلومات أنّ التفجيرات حصلت في أماكن مدنية، منها مستشفيات ومحال تجارية ومصالح خدمية، وسوى ذلك من المرافق المدنية، وهو ما يعني أنّ الإسرائيلي خطّط باستهداف أدوات مدنية (أجهزة اتصال تُستخدم عادة في المستشفيات) لقتل آلاف اللبنانيين، بقصد الانتقام أولا، والضغط ثانيا على حزب الله لفكّ موقفه القتالي عن إسناد الفلسطينيين في غزّة، وثالثا لخلق حالة من الإرباك والفوضى في صفوف الحزب؛ توفّر للإسرائيلي موقفا قتاليّا أفضل وتفرض على حزب الله وضعا قتاليّا أقلّ كفاءة، بنحو قد يتحوّل إلى حرب أكثر عمقا وسعة، أو إلى جهد إسرائيلي أعلى كثافة يؤمّل به الإسرائيلي نفسه تفكيك حزب الله.

حينما نناقش أمثال هؤلاء المثقفين والمتسائلين الحائرين، فإننا لا نعترض على البحث في التقدير السياسي لأصحاب القرار في عملية "طوفان الأقصى" أو مراجعة الخيارات الكفاحية للشعب الفلسطيني وقواه المقاومة، إنما نعترض على السببية الحتمية التي يفترضونها بين فعل المقاوم الفلسطيني ومستويات الجريمة الإسرائيلية، وهو ما يستبطن بالضرورة إدانة للضحية

ليس الغرض من استعادة هذه المقالة للجرائم الإسرائيلية في لبنان، تعريف الناس بما هو معروف (إلا بعض المكابرين وهؤلاء لا معنى للحديث معهم أصلا)، ولكن الغرض هو الاستمرار في تفسير سياسة المجازر وأنماط الإبادة والقتل الواسع المسعور والتدمير الممنهج المحموم الذي ينتهجه الإسرائيلي، وليس الغرض من هذا التفسير إلا الردّ على من يربط مستويات الإجرام الإسرائيلي ربطا حتميّا بفعل المقاومة ومستواه ونوعه، ومن ثمّ، سعى الإسرائيلي إلى تحويل الموقف في قطاع غزّة من بعد عملية "طوفان الأقصى" إلى إدانة لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية، تورّط فيها مثقفون، ودارت من حولها أسئلة حائرة. وأمثال هؤلاء المثقفين والحائرين، لا يرتبط بعضهم بأجندات منحطّة، تتبع سياسات عربية رسمية مصطفّة في الخندق الإسرائيلي، أو فلسطينية تغلّب الخصومة الداخلية باندفاعتها الغريزية على الصوابية الوطنية والمبدئية الأخلاقية، مما يعني أنّ ثمّة أسبابا أخرى من العمى تحول دون رؤية الحقائق وتُسقِط في خطابات غارقة في الخطأ والمغالطة والمواقف الآثمة.

مرّة أخرى، حينما نناقش أمثال هؤلاء المثقفين والمتسائلين الحائرين، فإننا لا نعترض على البحث في التقدير السياسي لأصحاب القرار في عملية "طوفان الأقصى" أو مراجعة الخيارات الكفاحية للشعب الفلسطيني وقواه المقاومة، إنما نعترض على السببية الحتمية التي يفترضونها بين فعل المقاوم الفلسطيني ومستويات الجريمة الإسرائيلية، وهو ما يستبطن بالضرورة إدانة للضحية، ومغالطة تشوّش على الطبيعة البنيوية للاستعمار الصهيوني، وبما ينتهي إلى الدعوة بلسان الحال إلى الاستكانة، ولن تغطّي على مثل هذه الدعوة ما يقترحه هؤلاء من أفكار نضالية لا حظّ لها من الإمكان الواقعي في حدود المعطيات القائمة.

فإذا كانت عملية "طوفان الأقصى" بحجمها وعمقها واستثنائيتها، وفّرت للاحتلال الذريعة (أو الفرصة بحسب بعضهم) لإدارة حرب إبادة جماعية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، فما الذي فعله حزب الله كي تتذرّع به "إسرائيل" لاستهداف الآلاف بالقتل والإصابة في ضربة واحدة كما في عملية "البيجرات واللاسلكي"؟ وما الذي فعله الحزب كي يوفّر لـ"إسرائيل" الفرصة لقتل 492 لبنانيّا في يوم واحد؟!

لقد ظلّ حزب الله حريصا منذ اليوم الأوّل لجبهة الإسناد، أن يحدّ قصفه في عمق ضيّق في شماليّ فلسطين المحتلة، متجنّبا الأهداف الموصوفة بكونها مدنية، ومتجنّبا المدن ذات الطابع الرمزي في شماليّ فلسطين المحتلة كعكا وحيفا، مركّزا على أهداف عسكرية، ولم يُغيّر من سياسته هذه حتى بعد استهداف العاصمة بيروت ومدن أخرى لها رمزيتها. وكانت سياسة الحزب هذه، المنحصرة مدى وأهدافا، محلّ كلام من كثيرين، سواء الذين ينتقدونه من موقع المتأمّل فيه أكثر لتوسيع الجبهة للتأثير على مجريات الحرب في غزّة بنحو أكثر عمقا، أو الذين يتهمونه بالاستعراض غير المجدي ويحمّلونه سلفا مسؤولية الجرائم الإسرائيلية في لبنان، وهؤلاء لهم موقف تأسيسيّ معاد للمقاومة الفلسطينية وحلفائها، أو الذين يطعنون في جدية جبهته لعجزهم عن رؤية أيّ جانب جيد في خصمهم، فيغلّبون الغرائز الثأرية على رؤية الواقع كما هو. لكن الحاصل، أنّ مستويات الجبهة اللبنانية ظلّت منحصرة في الأهداف العسكرية المادية (كتجهيزات التنصّت من أبراج وصحون لاقطة وغيرها)، وهو ما استثمره كثيرون للسخرية من أداء الحزب.

ظلّ إسناد حزب الله منحصرا في أهداف عسكرية مادية أكثر منها بشرية، ومع ذلك لم يمنع ذلك الإسرائيلي من اقتراف جرائم واسعة، بعضها أشبه برمي قنبلة نووية مصغّرة (محاولة قتل أربعة آلاف مواطن دفعة واحدة لا يمكن تقريبها إلا من إلقاء قنبلة نووية)، وهو ما يعني أنّ مستويات الجرائم الإسرائيلية ليست مرتبطة ارتباطا حتميّا بنوع الفعل المقاوم ومستوياته

وإذن ظلّ إسناد حزب الله منحصرا في أهداف عسكرية مادية أكثر منها بشرية، ومع ذلك لم يمنع ذلك الإسرائيلي من اقتراف جرائم واسعة، بعضها أشبه برمي قنبلة نووية مصغّرة (محاولة قتل أربعة آلاف مواطن دفعة واحدة لا يمكن تقريبها إلا من إلقاء قنبلة نووية)، وهو ما يعني أنّ مستويات الجرائم الإسرائيلية ليست مرتبطة ارتباطا حتميّا بنوع الفعل المقاوم ومستوياته، ومن ثمّ إنْ قال البعض إنّ الذريعة تمثّلت بمجرد إسناد الحزب للمقاومة في غزّة، فلا مفهوم لهذا القول إلا الدعوة لترك الشعب الفلسطيني ومقاومته في غزّة لمواجهة مصيرهم وحدهم بلا أدنى إسناد، وإنْ قال البعض إنّ الذريعة التي وفّرها الحزب في كونه حزبا مسلّحا مقاتلا يعادي "إسرائيل"، فلا مفهوم لهذا القول أيضا إلا الدعوة للكفّ عن أيّ تفكير لمواجهة "إسرائيل" أو أيّ سعي لفرض توازن ما معها، وبالضرورة، وكما خبرنا هؤلاء، لن يمتنع بعضهم عن التفكير بالقول طالما أنّ جبهة الإسناد لم تكن مؤثّرة بما يوقف المقتلة في غزّة، فسيكون الأجدر وفق هؤلاء؛ ألا يتدخل الحزب لصالح الفلسطينيين في غزّة حتّى لا يحمّل اللبنانيين مقتلة ودمارا دون تأثير على اندفاعة الإبادة الإسرائيلية في غزّة!

هكذا سيكون المقاوم الفلسطيني أو العربي مخطئا على أيّة حال، وهو ما يذكّر بالتشكيك المزمن الذي تبنّاه بعض المثقفين ممن كوّنوا موقفا نقديّا من أن مبدأ المقاومة المسلّحة بات أقرب إلى أيديولوجيا راسخة، تجاه خطابات المقاومة الفلسطينية، من حيث جديتها وصدقيتها في البناء والاستعداد في بيئة غير مواتية بالفعل، ولكنّهم بالرغم من ذلك لم يغيّروا موقفهم الأشبه في حقيقته بالانطباعات النفسية الغرائزية منه بالوعي الواقعي، حينما كانت تثبت هذه المقاومة صدقيتها كما في معركة "سيف القدس" (أيار/ مايو 2021)، أو "طوفان الأقصى" (7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، وهو ما يدفعنا لقلب افتراضيّ للموقف، مفاده لو أنّ "إسرائيل" بادرت إلى حرب تدميرية على قطاع غزّة، (وهي لها العادة في المبادرة إلى الحروب)، ولم تتمكن المقاومة الفلسطينية من التصدّي لها بسبب المفاجأة الإسرائيلية وقدرتها على تعطيل القدرات الهجومية للمقاومة، أما كان هؤلاء، بحسب تحليلنا السابق لخطابهم وتناقضاته، ومعرفتنا بمواقف سابقة لهم، سيتساءلون ماذا كانت تفعل المقاومة في غزّة طوال السنوات الماضية، طالما أنّها غير قادرة على فعل واضح في مواجهة الحرب الإسرائيلية؟!

هذا يعني أنّها متهَمة، من الأطراف نفسها، لو تلقّت حربا إسرائيلية لم تستطع مواجهتها بما يكافئ سنوات إدارتها لغزة، بما تحمّله الفلسطينيون خلال تلك السنوات من حصار ومعارك إسرائيلية بين الحروب، ومتهَمة لو استَبَقَتْ الحرب الإسرائيلية المتوقعة عليها بمبادرة كبيرة منها تكافئ سنوات عملها واستعدادها

هذا يعني أنّها متهَمة، من الأطراف نفسها، لو تلقّت حربا إسرائيلية لم تستطع مواجهتها بما يكافئ سنوات إدارتها لغزة، بما تحمّله الفلسطينيون خلال تلك السنوات من حصار ومعارك إسرائيلية بين الحروب، ومتهَمة لو استَبَقَتْ الحرب الإسرائيلية المتوقعة عليها بمبادرة كبيرة منها تكافئ سنوات عملها واستعدادها، وذلك لأنّه في صراع مع بنية كالبنية الاستعمارية الإسرائيلية، لا يمكن أبدا منع المبادرة الإسرائيلية إلى الحرب، (علينا أن نتذكر ما اقترحه غالانت في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بتوجيه الضربة الإسرائيلية أولا لحزب الله لا لحماس، وذلك قبل أن تتحوّل مسألة مستوطني شماليّ فلسطين المحتلة إلى قضية إسرائيلية لحوحة، وعلينا أن نتذكر الاستعدادات الإسرائيلية المثابرة قبل السابع من أكتوبر لحرب محتملة في الشمال، والوثائق التي كشفت عن خطط إسرائيلية للمبادرة إلى ضرب غزّة ضربة قاصمة قبل السابع من أكتوبر)، كما لا يمكن للضحية أن تُقَيِّد بنحو حتميّ فعل الإسرائيلي بالالتزام بقواعد اشتباك أو عدم استهداف المدنيين أو عدم اقتراف المجازر الواسعة!

على هذا الأساس يمكن مناقشة أداء الحزب، أي الأساس نفسه الذي نردّ به على من يتهم المقاوم الفلسطيني أو العربي بتوفير الذريعة أو الفرصة للإسرائيلي لتوسيع جرائمه، إذ لم تنجح كلّ محاولات الحزب في ضبط المواجهة وفق قواعد اشتباك محصورة بأهداف عسكرية محدودة؛ من منع الإسرائيلي من المبادرة إلى اقتراف جرائم يصعب أن تطرأ على خيال أكثر العقول ولعا بالشرّ! فلا شيء يمنع "إسرائيل" من محاولة إنجاز أهدافها بالوسيلة التي تراها الأنجع، كأن تكون بالإبادة والمجازر، وحينها إمّا أن يبادر أعداؤها لفعل ما يستطيعونه طالما الضربة الإسرائيلية حاصلة حتما، أو أن يتلقّوها بعدما صارت قدراتهم أقلّ فاعلية.

x.com/sariorabi
التعليقات (0)