هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تاريخ القضية
الفلسطينية سلسلة طويلة من النكبات والنكسات والطعنات المميتة في الظهر والخاصرة
التي تترك خلفها، بكل صلافة وتحدّ، جراحا غائرة، وآمالا خائبة لا تندمل أبدا.
في جميع
"الصفقات" السرية والعلنية، التي حبكت وحكيت ونسجت على المنوال العربي
الرسمي على مدى مائة عام من عمر القضية الفلسطينية، لم يؤخذ أحد برأي الشعب العربي
الفلسطيني.
كان الفلسطينيون
الحاضر الغائب، الشعب المستتر والظاهر، الخفي والمرئي، يتذكره العالم عندما ينزف
ويئن تحت قهر الاحتلال وضعف وتشتت وقلة حيلة، المؤسسة الرسمية العربية والدولية،
ثم ما يلبث أن ينساه أو يتناساه تماما،
وهو في طريقه لعقد "تسوية سياسية" أو" صفقة" ما، وكأنه لم
يوجد أبدا.
مع انهيار العالم
القديم، المريض، المترنح وهو في الرمق الأخير من أيام مجده البائدة مع انتهاء
الحرب العالمية الأولى، بدأت أولى
"الصفقات" حين اكتشف العالم في عام 1916 "صفقة سرية" خطط لها
الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا بيكو والبريطاني مارك سايكس لاقتسام مناطق نفوذ الدولة
العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية
الأولى.
كادت "الصفقة" أن تمر بهدوء، لكن الطرف الثالث في "الصفقة" وهو روسيا القيصرية،
سقطت بأيدي الثوار الذي رأوا نشر تفاصيل
"الصفقة" بوصفه تشنيعا وإظهارا لمدى قباحة القيصر.
وبموجب الاتفاق
"السري العلني" لاقتسام مناطق الدولة العثمانية، حصلت روسيا القيصرية
على القسطنطينية (إسطنبول) وعلى ضفتي البوسفور ومساحات كبيرة في شرق الأناضول في
المناطق المحاذية للحدود الروسية التركية، وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من بلاد
الشام وجزء كبير من جنوب الأناضول ومنطقة الموصل في العراق.
أما بريطانيا فامتدت
مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعة بالاتجاه شرقا لتضم بغداد والبصرة
وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية.
وتقرر أن تقع
المنطقة التي اقتطعت فيما بعد من جنوب سوريا وعرفت بفلسطين تحت إدارة دولية يتم
الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية.
ثم جاءت "الصفقة
المكملة" لها عبر الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطانية آرثر بلفور
عام 1917 إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية والتي عرفت فيما بعد باسم
"وعد بلفور"، و قطعت فيها الحكومة البريطانية تعهدا بإقامة "دولة
لليهود في فلسطين".
وتحقيقا لـ"الصفقة
الثانية" فقد أقرت "الصفقة الثالثة" بإعلان الانتداب البريطاني
على فلسطين أو الاحتلال البريطاني لفلسطين بعد اجتماع مندوبي "دول الاتفاق" المنتصرة في
الحرب العالمية الأولى في مدينة سان ريمو الإيطالية في 1920، بما يسمى
"مؤتمر سان ريمو"، ليقرروا الشكل النهائي لتقسيم الأراضي المحتلة من
الدولة العثمانية، وفي هذا المؤتمر اتفق المجتمعون على منح منطقة فلسطين لبريطانيا
لتهويدها.
في عام 1922 دخلت
"عصبة الأمم" على خط "الصفقات" بأن أقرت الانتداب البريطاني
بشكل رسمي على فلسطين على أساس "وعد بلفور".
وسيطرت بريطانيا على
ما يعرف اليوم يفلسطين التاريخية بالإضافة إلى منطقة شرق الأردن (المملكة الأردنية
الهاشمية) والتي استثنيت من الانتداب
البريطاني في عام 1921 فتمتعت بحكم ذاتي (في ما كان يعرف بإمارة شرق الأردن) ولم
تخضع لمبادئ الانتداب أو لـ"وعد بلفور".
وقبلها كان قائد القوات البريطانية الجنرال أدموند أللنبي
يدخل مدينة القدس بوصفه محتلا أو "فاتحا" كما روج له، ما أثار مشاعر
الابتهاج في أوروبا إذ وقعت القدس تحت سيطرة أوروبا "الصليبية" لأول مرة
منذ عام 1187.
اتبعت بريطانيا طيلة
فترة الانتداب على فلسطين سياسية تهدف إلى تعزيز مسألة "الوطن القومي
لليهود" والعمل بأسلوب التسويف والمماطلة مع طلبات العرب، والوصول إلى أكثرية
سكانية يهودية في فلسطين مع طرح بعض المشاريع الوهمية أو "الصفقات"
المبهمة والغامضة لإشغال وإشعال العرب بها.
في تلك الأثناء كانت ثمة "صفقة جديدة" تحاك ضمن بعض المساعي العربية للوساطة بين
"اللجنة العربية العليا" الممثلة لمجاهدي ثورة فلسطين الكبرى والحكومة البريطانية حيث صدر
نداء مشترك عن الملك ابن سعود والملك غازي والأمير عبد الله إلى رئيس اللجنة
العربية وإلى عرب فلسطين جاء فيه: "لقد تألمنا كثيرا للحالة السائدة في
فلسطين، فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبد الله، ندعوكم للخلود إلى
السكينة حقنا للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها
المعلنة لتحقيق العدل وثقوا بأننا سنواصل
السعي في سبيل مساعدتكم".
وبناء على ذلك أعلنت "اللجنة العربية العليا" حل الإضراب ودعت عموم الشعب إلى إقامة الصلاة على
أرواح الشهداء الذين زاد عددهم على الألف عربي.
وما لبثت "اللجنة
الملكية البريطانية" أن نشرت في عام 1937 والتي كان يرأسها اللورد
"بل" تقريرا أوصت فيه بأنه لا يمكن حل مشكلة فلسطين إلا على أساس اقتراح
مشروع تقسيم فلسطين.
ثم توالت
"الصفقات" العلينة والسرية، من "الكتاب الأبيض" البريطاني،
إلى "لجنة تحقيق أنجلوـ أمريكية"، ولجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين "أنسكوب "UNSCOP" التي أوصت بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية
ويهودية وجزء منها تحت الوصاية الدولية تتولى إدارته الأمم المتحدة، بحيث يكون ما
يقارب الـ56% منها لليهود.
كان الإنجليز على هامش
جميع "الصفقات"عونا لليهود في
تحقيق مآربهم، حيث قاموا بتدريبهم خلال فترة الانتداب ومدهم بالسلاح، وكلما
انسحبوا من منطقة في عام 1948 سلموها إلى اليهود. وانتهت هذه الفترة التي سميت
بنكبة أيار/ مايو عام 1948 باحتلال اليهود لمعظم أراضي فلسطين وتهجير مواطنيها
باستثناء غزة والضفة الغربية ومدينة القدس الشرقية التي سقطت فيما بعد في حرب
حزيران/ يونيو عام 1967.
وحين كانت القوى
الاستعمارية القديمة ممثلة ببريطانيا وفرنسا تتآكل وتصاب بشلل وصدأ في ماكينتها المضللة، كانت الولايات المتحدة تحتل مكانهما وتأخذ
الدور الرئيس منهما، تاركة لهما دور التبعية الكاملة والفتات.
الرئيس الأمريكي
هاري ترومان تدخل وضغط من أجل تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وساند قرار
التقسيم، واستدعى البيت الأبيض ممثل "الوكالة اليهودية" في واشنطن
وأبلغه بأن الولايات المتحدة قررت أن تعترف اعترافا واقعيا باستقلال
"إسرائيل"، وفي الساعة السادسة تماما
أعلن نبأ نهاية الانتداب على فلسطين، وفي الساعة السادسة والدقيقة أُعلن قيام "دولة إسرائيل"،
وفي الساعة السادسة والـ11 دقيقة اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بـ"دولة إسرائيل".
لتبدأ سلسلة طويلة
ومملة من "الصفقات و"التسويات" و"المشاريع" الأمريكية التي
كانت تحمل غالبا أسماء وزراء خارجية أو رؤساء دولة، كانت واشنطن تكمل دور بريطانيا
لكن بدور الشريك الكامل، الجريء أحيانا والوقح غالبا، بتشجيع من تحت الطاولة لدولة
الاحتلال لسرقة مزيد من الأرض العربية، وزيادة مساحة الدم العربي النازف، وتهجير
من تبقى في فلسطين التاريخية، وعلى الهامش كان هناك دور رسمي عربي "يلعب دور
الكمبارس في السينما" يدعو إلى "التهدئة" وإعطاء جهود "السلام" فرصة وضرورة استثمار "الفرص الضائعة"، مع التلويح بحقيبة
من الدولارات الشحيحة كنوع من الضغط ولي الذراع.
وهكذا أنجزت "صفقة" كامب ديفيد، ومن بعدها "صفقات" أخرى كبرى من وزن "أوسلو" و"وادي عربة" وما خفي
كان أعظم..
كان التاريخ يعيد
نفسه، بتكرار المفردات الرسمية العربية والأمريكية، و"الصفقات" التي كانت
تنتهي دائما بتثبيت وتقوية و"شرعنة" دولة الاحتلال، وخسارة الفلسطينيين
لمزيد من الأراضي والدماء، وزيادة مساحة معاناتهم، ومزيد من التمزق العربي والانحناء
أمام عواصف واشنطن وتل أبيب التي لا تهدأ ولا يستقر لها حال.
كان هناك من
يعقد "الصفقات" أو يقوم بدور "عراب" التهدئة وإعطاء
"السلام فرصة" وتشويه الفلسطينيين وتجويعهم وجرهم رغما عنهم إلى النوم
مع العدو، وإلى مربع تل أبيب، وهو إنجاز لم يكتب له النجاح رغم تمسك السلطة الفلسطينية بـ"صفقة"
تستلقي في غرفة "العناية الحثيثة" منذ عام 1993.
والآن تركض إدارة
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتشجيع من صهره كوشنير وابنته إيفانكا، الذي يتصادف
أنه يهودي متطرف وزوجته قد تحولت إلى اليهودية من أجل ما يسمى "صفقة القرن"
التي هي المرحلة الأخيرة من صفقات "وعد بلفور" و"سايكس بيكو".
وتدب الحماسة في
المؤسسة الرسمية العربية كالعادة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، وتقرع طبول
"الصفقة" الجديدة التي هي استكمال لاتفاقية "سايكس –
بيكو" و"وعد بلفور"
وغيرها، في العواصم العربية التي تواصل الرقص في عتمة بنيامين نتنياهو من أجل وأد
ما تبقى من فلسطين والقدس والمسجد الأقصى.
وباستمرار يكون
الفلسطينيون الحاضر الغائب الذي يتحدث عنه العرب بضمير المستتر، فيما لا يكاد
ترامب وصهره يستطيعان أو يرغبان في رؤية هذا الشعب الوحيد القادر على إنجاح أو
إفشال "صفقة القرن" التي تتكرر منذ 100 عام دون نتيجة حاسمة، ودون رضا
وقبول فلسطيني، ويُطالب الآن بالتنازل عن ما تبقى من وطنه وحق العودة واللاجئين
والقدس تحت وابل من "النيران الصديقة".