هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعد تمكن قوى الثورة المضادة من تفكيك الثورات العربية وإخماد شعلتها المتقدة، ما أفضى بها إلى تلك النهايات المؤسفة، يثور بين الحين والآخر جدل حول أسباب عجز تلك الثورات عن التصدي لمكر ومخططات جميع القوى التي استهدفتها وسعت لإجهاضها.
ففي الوقت الذي يُركز فيه بشدة على شراسة أعداء تلك الثورات، الذين حشدوا كامل قواهم، وسخروا إمكاناتهم الهائلة لمواجهة الثورات وإجهاضها، يتجه آخرون إلى تحميل الثورات ذاتها جزءا كبيرا من أسباب الفشل، والتي يأتي في مقدمتها غياب النخب القيادية القادرة على المحافظة على مكتسبات الثورة، ومواصلة مسيرتها الثورية إلى نهايتها.
ووفقا للباحث الأردني، المهتم بدراسات النهضة وقضايا التغيير، إبراهيم العسعس فإن غياب النخب القيادية الواعية عن الثورات العربية كان أحد أبرز وأهم أسباب فشلها، مؤكدا على أن ما حدث منذ 2011 لم يكن ثورات حقيقية، لعدم وجود قيادات واعية، تدرك الواقع إدراكا صحيحا، وتعي في الوقت نفسه سبيل المجرمين وكيفية إدارتهم للصراع.
ولفت العسعس في حديثه لـ"عربي21" إلى أن "النخب القيادية المقصودة هنا ليست نباتا خيالا ينبت فجأة هكذا، وإنما تستنبت استنباتا، وتصنع صناعة، ضمن خط إنتاج يقوم على تهيئته ورعايته القائد أو القادة الواعون، وهو ما يضمن للثورات المحافظة على مسارها المرسوم وإيصالها إلى بر الأمان.
وأضاف "من خلال الدراسة المتأنية للتجارب النهضوية العربية منذ ما سمي بعصر النهضة إلى يومنا هذا، لم يكن هناك خط إنتاج للنخب القيادية، وهو ما أدّى إلى فشل تلك التجارب، وإن برزت بعض النخب ضمن محاضنها الخاصة باجتهادها الشخصي، وليس كعمل جمعي واعٍ ومخطط له.
وتابع العسعس "كما تُظهر دراسة أعظم الثورات التي تكللت بالنجاح، وفي مقدمتها ثورة نبينا عليه الصلاة والسلام، والثورة الفرنسية، والثورة البلشفية، والثورة الإيرانية أن من أعظم أسباب نجاحها توفر نخب قيادية واعية، تعي الواقع بعمق، وتتعامل معه بفاعلية بما يتناسب معه".
وتوضيحا لمواصفات وشروط صناعة النخب القيادية المطلوبة أكدّ العسعس أن خط إنتاج النخب هو "حالة مقصودة يسعى القائد الناجح دائما لإيجادها، ومن أبرز صفاتها التي يجب أن تتحلى بها: الوعي والفاعلية".
وتساءل العسعس "كيف يمكن إطلاق اسم الثورة على ما حدث في بعض الدول العربية إبان ما سمي بالربيع العربي، وكل نتائجه ومآلاته أفضت إلى إعادة إنتاج السلطوية العربية بممارسات عنفية أشد وأقسى من سابقاتها بكثير؟".
من جهته قال الباحث والناشط المصري، علاء الكلاف " من المؤكد أن النخب هي المعنية بالتخطيط للتغيير في المقام الأول، ولكنها مهما خططت وأحكمت التخطيط، فإنه يظل حبرا على ورق ما لم تستجب الجماهير، فهما متكاملان يذوبان ساعة الحدث في تناسق أدوارهما".
وعن طبيعة العلاقة بين النخب والجماهير أوضح الكلاف لـ"عربي21" أن ما ينبغي التنبه له أن النخب الداعية لا بد لها من قاعدة حاملة للدعوة المنوط بها إحداث التغيير ككتلة صلبة يلتف الناس من حولها، فالنخب وحدها لا تصنع شيئا، والجماهير وحدها لا تحدث تغييرا".
وفرَّق الكلاف بين النخبة الداعية للتغيير، والمحرضة للجماهير، وبين القيادة التي تقود الحراك ساعة الحدث، فالأولى تصنع وتعد أما الثانية فتفرزها الأحداث وتقدمها الشدائد للقيادة، لحظة الثورة واستجابة الجماهير، مما يصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور".
أما بخصوص فشل الثورات العربية فطبقا للناشط المصري الكلاف "فلا ينبغي تحميل فشلها للنخب وحدها، أو الجماهير وحدها، فكلاهما تقع عليه المسؤولية، وإن كانت المسؤولية الأكبر تقع على عاتق تلك النخب، في سطحية تفكيرها، ورؤاها المجنحة، ونظرياتها الحالمة غير الواقعية، وافتقارها للتخطيط الواعي المتكئ على معطيات واقعية صحيحة".
وأضاف "وبالنسبة للجماهير فإن ضحالة وعيها، الذي صنعته الأنظمة، وجهلها بآليات إدارة الصراع شكلا عائقا أمام إحداث التغيير، فالمعادلة: قيادة حالمة + جماهير جاهلة = ثورة فاشلة".
بدوره رأى الباحث الجزائري، عامر إبراهيم أن جوهر التغيير الذي يصنع الثورات يرجع إلى وجود الأفكار المحركة، فإن اهتدت الجماهير – عامة الشعب – إليها، دون تقديم لها من النخبة، أمكنها التغيير وإحداث النهضة، فالعبرة في الأفكار التي تحدث التغيير لا فيمن يحصلها" على حد قوله.
وأضاف "فإن قيل: كيف يعقل حدوث الفكرة دون تقديم لها من النخبة؟ قيل أمكن ذلك من الظروف الخارجية التي يعيشها كافة الشعب، ويضيق بها ذرعا" ممثلا لذلك بما حدث في النهضة الأوروبية، حينما انتشرت فكرة تسلط الكنيسة وممارستها للقهر باسم الدين، وهي ليست من الدين في شيء، ما هيأ المناخ لتبلور الفكرة عند الجمهور قبل النخبة".
وإجابة عن سؤال "عربي21": هل غياب النخب القيادية عن الثورات العربية أفضى إلى فشلها؟ أكدَّ ذلك بقوله "نعم أراه واضحا جليا، فالنهضة في أصلها إعدام للتخلف، والتخلف هو تراكم لمجموعة من الأفكار الميتة، والذي يبيد تلك الأفكار ما تنتجه عقول النخب وسلوكياتهم، وهو ما لوحظ غيابه في الثورات العربية".
وأنهى إبراهيم حديثه بالإشارة إلى أن "دور النخب الواعية يتمثل فيما تقوم به من هدم الأفكار الميتة المعيقة، وبناء وإشاعة الأفكار الحية المحركة، فمشكلتنا اليوم فكرية بامتياز، وهي متجذرة في العقل الجمعي، ولا بد أن تنتصب النخبة لتصحيحها قبل الدعوة لثورة عقيمة كتلك التي رأيناها، فإن فعلوا أثمرت تلك الثورات تقدما وعزة، وإن جبنوا وتخاذلوا فهم كمن يرسل الجنود إلى الحرب بغير سلاح".