في لقاء إعلامي أجري مؤخراً، قال أحد الناطقين باسم حركة التحرير الوطني
الفلسطيني (فتح) حرفياً: "كل فلسطيني ينفضُّ من حول أبو مازن في هذه اللحظة هو فلسطيني منقوص الشرف".
وبعيداً عما في القول من مماهاة بين الوطن /القضية والمسؤول/ الشخص، بحيث تنتزع صفة "الشرف" ممن لا يدعمه بما ينافي أي منطق سياسي ومنهجية علمية، وبعيداً عن الفوقية المنفّرة والخطاب المسيء من ذلك الناطق، وبعيداً عن احتكار الوطنية وادعاء أحقية منح الشرف ومنعه عن الآخرين مما لا يملكه الشخص ولا ينبغي له.. بعيداً عن كل ذلك، هل في سياسات الرجل ومواقفه الحالية ما يدعّم المعنى الذي يحيل إليه الناطق باسم الحركة؟
السردية التي يعتمد عليها ذلك الناطق مبنية على أن الرئيس الفلسطيني يواجه الآن "
صفقة القرن"، وبالتالي فكل من لا يقف إلى جانبه، فضلاً عن أن ينتقده أو يختلف معه، قد وضع نفسه في خانة الاحتلال والإدارة الأمريكية وصفقة القرن الساعية لتصفية القضية الفلسطينية، وهو ادعاء يحتاج إلى تفكيك وفحص.
أكثر ما عرف السيد
محمود عباس به هو اتفاق أوسلو المبرم عام 1993 دون علم ورأي الشعب الفلسطيني في حينها وحتى اليوم، والذي يصر عليه وعلى التزاماته وتبعاته الرئيس الفلسطيني وتياره حتى اللحظة، رغم التنصل "الإسرائيلي" منه وإعلان وفاته منذ سنوات طويلة جداً. إنه اتفاق أوسلو الذي اعترفت من خلاله منظمة التحرير الفلسطينية بما يسمى "دولة إسرائيل"، ما يعني التنازل المباشر عن 78 في المئة من أرض فلسطين التاريخية مقابل الاعتراف بها ممثلاً للفلسطينيين، وليس حتى في مقابل حقوقهم، فضلاً عن تجريمه مقاومة الاحتلال نصاً، ثم اتفاقية باريس التي دمرت الاقتصاد الفلسطيني من خلال ربطه التام بالاحتلال، وإرجاء قضايا بالغة الحساسية والأهمية، مثل القدس واللاجئين، وتركها لنتائج التفاوض وفق موازين قوى معروفة سلفاً.. إلى آخر ذلك من سلبيات الاتفاق الكارثي.
أكثر من ذلك، يتفاخر الرئيس الفلسطيني، وقائد حركة التحرير الوطني كما يفترض، بأنه لم يحمل يوماً مسدساً وأنه ضد "العسكرة"، بل ضد كل أشكال المقاومة المسلحة بغض النظر عن مكانها وسياقها، ويؤمن أنه لا بديل عن التفاوض إلا التفاوض، وأن ما يعرف بـ"التنسيق الأمني" مع الاحتلال أمر مقدس، وصولاً للإعلان عن اتفاقه بنسبة 99 في المئة مع الأجهزة الأمنية "الإسرائيلية"، التصريح الذي لم يصدر أي نفي أو تعقيب عليه من الرئاسة الفلسطينية حتى اللحظة فيما أعلم.
أعلن الرئيس الفلسطيني بشكل واضح وحاسم أنه ضد صفقة القرن، كما سميت، رافضاً الضغوط الأمريكية المباشرة في هذا الاتجاه ورافضاً التواصل مع الإدارة الأمريكية، وهو أمر يحسب له ولا شك. ولكن واقع الفعل لا يتطابق مع المعلن من خطاب، ذلك أن السلطة في تواصل مستمر مع الإدارة الأمريكية وحتى مع الاحتلال، من خلال اللواء ماجد فرج، فضلاً عن أن التعاون الأمني مع الاحتلال يسير على قدم وساق دون أدنى تغيير.
لا يخفى أن صفقة القرن ليست اتفاقية تقليدية تحتاج لطرفين يجلسان إلى الطاولة لتوقيعها على غرار أوسلو، بل هي مجموعة قرارات وإجراءات ومسارات تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال إغلاق/ إنهاء أهم ملفاتها مثل القدس واللاجئين، مثل قرارات نقل السفارة الأمريكية للقدس ووقف الدعم المالي عن وكالة "الأونروا" ومستشفيات القدس وغيرها.
وعليه، فإن الإعلان عن عدم الموافقة على "الصفقة" وعدم التجاوب معها لا يكفي، بل ينبغي أن يقترن بقرارات وسياسات تواجه مسار تصفية القضية ضمن العناوين التي يستهدفها. إن جهود مواجهة صفقة القرن تبدأ وتنتهي بتجميع وتطوير أوراق القوة الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني، لا سيما في مرحلته الحالية المختلفة تماماً عن كل ما سبقها والتي كللها الاحتلال أخيراً بقانون يهودية الدولة.
المصالحة الفلسطينية وتوحيد الجبهة الداخلية الفلسطينية، واجتراح مشروع جامع للكل الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، والتخلص من التزامات أوسلو المكبلة للشعب الفلسطيني وقواه، وإطلاق المقاومة الشعبية في مواجهة الاحتلال، وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني، وإعادة إشراك فلسطينيي الشتات في الصراع.. هو المطلوب اليوم. فما الذي ينادي به السيد عباس ويعمل عليه؟ الإصرار على حصار قطاع غزة و"العقوبات" على ساكنيه، والتصلب في وجه المصالحة الفلسطينية الداخلية، ومنع أي حراك ولو شعبي وسلمي في الضفة الغربية... إلخ. فهل هذه سياسات من يواجه صفقة القرن؟ أم من يساهم فيها؟
دائماً ما تسعى الأنظمة للتشويش على أي طرح ناقد أو معارض بالطعن فيمن قدمه. تفعل الأنظمة العربية ذلك باتهامات العمالة والأجندات الخارجية، وتفعل السلطة الفلسطينية ذلك بالاتهام بالعمالة للاحتلال (تخيل) ووضعه في سياق المناكفات الحزبية الناتجة عن الانقسام.
رغم ذلك، يبقى للحقيقة ثقلها وحضورها وتأثيرها ويبقى للمسؤولية متطلباتها، ولا يضرهما خطاب التشويش والتشويه. إن القول بمواجهة صفقة القرن شيء جميل ومحمود، بشرط أن يقترن بأفعال وقرارات وسياسات في نفس الاتجاه، وليس الاتجاه العكسي تماماً. إن المرحلة الحساسة والخطيرة التي تمر بها القضية الفلسطينية تتطلب من الجميع أن يكونوا على قدرها وأن يتحلوا بالمسؤولية المطلوبة، وأول مستويات ذلك المصارحة والمكاشفة والشفافية وتقديم المصلحة الوطنية العامة على الحزبية /الفئوية/ الشخصية الضيقة.