عندما نال
السودان استقلاله في مطلع عام 1956، هرع آباء الاستقلال إلى الجامعة العربية، لضم بلادهم إليها، ويقال إن وزير خارجية لبنان وقتها - شارل مالك - اعترض على الطلب السوداني، من منطلق أن السودانيين ليسوا عربا.
والجواب من عنوانه كما يقول المصريون، ويقصدون بالجواب الرسالة داخل مظروف/ مغلف؛ يعني اسمهم سودانيون، وبالتالي فهم ليسوا عربا؛ لأن العرب ليسوا سود البشرة، وربما لم يكن شارل مالك يتوقع أن يأتي يوم تتبرأ فيه مجموعة من الأحزاب السياسية في بلاده - لبنان - عن
العروبة، وتعلن انتماءها للفينيقيين.
كان انضمام السودان للجامعة العربية كارثة على وحدته الوطنية، فمنذ يومها والقبائل الأفريقية فيه، والتي تشكل معظم سكانه، تشكو من التهميش، وتكويش العناصر العربية - أهل أواسط البلاد - على السلطة والثروة، وانتهى الأمر حتى الآن بانفصال جنوب البلاد وإعلانه دولة مستقلة، وربك يستر على باقي أنحائه.
وكان رد فعل الجامعة العربية أو عدمه، على انفصال جنوب السودان، واشتعال حرب أهلية ضروس في إقليم دارفور في غرب السودان دليلا على صدق ما ذهب إليه شارل مالك، وصدق استنتاج أهل الهوامش والأطراف في السودان، بأنهم ليسوا عربا، وأن العرب ليسوا معنيين بواقع ومستقبل حالهم.
لم يفتح الله على الجامعة العربية ولو بكلمة رثاء؛ لضياع ثلث مساحة السودان، مع خُمس سكانه و80 في المئة من غطائه النباتي، ولم يلعب حتى دور المتفرج حول الوضع في دارفور، بينما تداعت الدول الأفريقية لاحتواء الحرب هناك. وما زالت قوات أفريقية ترابط في الإقليم الى يومنا هذا، لفك الاشتباك بين الأطراف المتحاربة، مما عز الإحساس بين سكان دارفور بأنهم أفارقة وأن الجنس على الجنس رحمة.
وحقيقة الأمر هي أن العروبة على بعضها كادت أن تصبح موضة قديمة، انتهى بعض بريقها بوفاة فارسها الأول جمال عبد الناصر، الذي طرح القومية العربية كترياق مضاد للإمبريالية، وكشعار لنضالات التحرر الوطني، وواصل حزبا البعث في سوريا والعراق حمل راية العروبة، وانتهى الأمر ببعث العراق يحتل الكويت "العربية"، ثم يدفع ثمن ذلك احتلالا أمريكيا للعراق، إيذانا بانتهاء سلطان البعث ثم احتلالا طائفيا "وطنيا فارسيا".
أما حكومة دمشق، فقد أصبحت بيد البعث الروسي؛ لأنها هيأت المناخ لموسكو لتعيد أمجاد السوفييت، بجعل روسيا قوة دولية، بعد أن ظل استخدام العضلات عندها قاصرا على الجمهوريات العشوائية التي نجمت عن تفكك الاتحاد السوفييتي قبل 28 سنة.
لم نعد في وقتنا الراهن نسمع مسؤولا عربيا يتكلم عن "نحن كعرب"/ الوحدة العربية الحتمية/ المصير المشترك/ من المحيط الى الخليج/ التضامن العربي"، بل أصبحت مفردة "عربي"، لا ترد على الألسن إلا من باب التباهي عند الأفراد والمجموعات: يا ريّال/ زلمي/ زول/ رجل، نحن عرب لا نسوي كذا وكذا، ولا نقبل كذا وكذا، وينبغي أن نفعل كذا وكذا.
أي أن الانتماء العربي لم يعد لحاما يلم شتات أهل ما كان يعرف بالمنطقة العربية. وصحيح أن العروبة لم تكن يوما ما فكرا أو أيديولوجية، ولكنها كانت ترمز إلى الرباط العاطفي والثقافي بين شعوب المنطقة، منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، وحتى منتصف أواخر سبعينات القرن الماضي؛ فلم يكن هناك أي قاسم مشترك بين الدول الأعضاء في الجامعة العربية، غير رابطة اللسان والعرق، وهي رابطة واهية لأن أبناء العائلة الصغيرة الواحدة، لا يتفقون حول كثير من أمور الحياة الأساسية، ولم يكن واردا في قاموس حكومات تلك الفترة، الدعوة إلى الالتقاء برباط الإسلام، ولا هو وارد في قاموس حكومات الفترة الحالية، ولم يكن مستغربا أن ينادي مؤسسا ما يعرف بالإسلام السياسي، الشيخان حسن البنا ورشيد رضا، إلى الربط بين العروبة والإسلام، على الأقل في بدايات تأسيس حركة الإخوان المسلمين، من منطق إحساسهما بأن العروبة وحدها لا تصلح كفكر سياسي ونظرية دين ودنيا، وأن معظم العرب مسلمون.
ربما كان الانتماء للعروبة رباطا واهيا بين شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولكن وفي غياب رابط بديل مقبول بين شعوب المنطقة، فقد كانت العروبة شعلة ألهبت الحس الوطني في اليمن الجنوبي والجزائر وتونس (بنزرت) في ستينيات القرن الماضي، وكرست الاعتزاز بالانتماء والارتباط بين تلك الشعوب.
حكام "العرب" المعاصرون لا يريدونها عروبية ولا إسلامية ولا اشتراكية، ولا هذي ولا تلك، فالمجد لم يعد للفكر أو النظرية أو المعتقد، بل للفرد.