في عالم عربي معاصر بات معرضا للموت وصور الجثث ومنظر الأشلاء، ومتخم بحوادث
العنف والحرب والخراب، وتتصدره أخبار القتل والقسوة والبطش، وروايات الإرهاب والعمليات الانتحارية، ما الذي جعل من حدث قتل "
جمال خاشقجي" قضية فريدة ومختلفة تشغل العالم؟
بعيدا عن نظريات المؤامرة المتغلغلة في نسيج العقل الشعبوي العربي الذي نسي ذاتية الحدث وقفز إلى بعض آثاره، وركن إلى تفسيره في نطاق الاستثمار السياسي، وهو جزء مؤكد في سياق اللعبة السياسية، فإن قتل خاشقحي حدث فريد مؤسس بذاته، فهو يثير حالة من الفزع والرعب والهول؛ يتجاوز كافة أشكال وصور الرعب المعاصر المتمثل بالعمل الإرهابي "الانتحاري"، كمعيار للفظاعة البشرية في العقل الإنساني الحداثي المعاصر على اختلاف أيديولوجياته ومعتقداته وانتماءاته.
إن حدث قتل خاشقجي ببساطة وضع سؤال العنف والدولة في صلب النقاش والحجاج العالمي، فلم نجد أحدا في أطراف الكون/ القرية يبرر قتل خاشقجي، إذ لا تنطبق عليه صفات الإنسان المستباح بأي معيار، فهو ليس إرهابيا ولا مجرما بل ولا معارضا أو منشقا، حتى أن السلطات الرسمية
السعودية في بيان الاعتراف بموته في قنصلية بلاده نعتته بالمواطن السعودي (بأل التعريف) ودعت له بالرحمة، وهكذا فإن العالم لم يستطع أن يتجاوز موضوع الكرامة الإنسانية لحساب المصالح البشرية؛ سوى طغمة صغيرة انسلخت من إنسيتها وأصابها العمى؛ فرأت أن لا تناقض بين الأمرين.
ما أثار الضمير الجمعي العالمي في حدث قتل خاشقجي هو أن عنف الدولة لم يستخدم لمنع العنف الذي يفترض بالدولة أن تحمي المواطن منه، ولم تكن رواية "القتلة المارقين" عن الدولة مجرد حيلة ساذجة، بل رغبة إنسانية لا شعورية عميقة بأن يكون الأمر كذلك، إذ لا يعقل الحدث في نطاق العقل الحديث وتعريفه لدولة القانون الحديثة، مع أن الجميع يدرك أن بنية الدولة العربية المعاصرة تخرج عن مفهوم دولة القانون، فضلا عن الديمقراطية والحرية والعدالة، وأن العنف أحد أهم مكوناتها البنيوية في حيازة السلطة.
في هذا السياق، تصدق مقاربة تشارلز تيلي على الحالة العربية أكثر من الدول الأوروبية؛ باعتبارها عصابة، في دراسته "صناعة الحرب وبناء الدولة بوصفها جريمة منظمة". فحسب تيلي، إذا كان جني الإتاوات بالبلطجة يعد أنعم أشكال الجريمة المنظمة، فإن صناعة الحروب وبناء الدول (والتي تقوم بنفس النشاط متحصنة بمزية الشرعية) يجوز اعتبارهما أهم الأمثلة على الجريمة المنظمة، ومن دون التوسع في وصف الجنرالات ورجال الدولة كقتلة أو لصوص، وأن اعتبار صانعي الحرب وبناة الدول كمقاولين للقوة الجبرية يسعون لمصالح ذاتية لهو اعتبار مقارب للحقيقة أكثر من التصورات البديلة، كفكرة العقد الاجتماعي، أو فكرة السوق المفتوح الذي يقدم فيه قادة الجيوش والدول خدمات لزبائن راغبين، طوعياً أو لفكرة المجتمع الذي يتشارك معايير وتطلعات تستدعي هذا النوع من الحكومات.
هول حدث قتل خاشقجي أنه يجيب بطرائق بدهية شتى عن سؤال فائض العنف في
العالم العربي، باعتباره نتاج عنف بنيوي للسلطة لا يمكن اختزاله بثقافة المجتمع والدين، حيث تقدم الدولة نفسها كقوة إصلاح وتنوير وتحديث في مواجهة مجتمع متخلف وظلامي ورجعي. ولا جدال بأن العالم العربي الإسلامي يتوافر على فائض من العنف السياسي يتفوق على مظاهر العنف السائد في مناطق حضارية أخرى، فقد باتت الجهادية العربية (بشقيها "الدولة الإسلامية" و"قاعدة الجهاد") أحد الفاعلين الصاعدين في رسم معالم ومستقبل الدولة الوطنية، لكن ذلك العنف لا يستند إلى منابع دينية نصيّة وتأويلات كلاميّة فقهيّة متطرفة، بل إن العنف ظاهرة إنسانية تستند إلى أسباب وشروط وظروف موضوعية تستخدم النص كإطار أيديولوجي ثوري للتمرد على "العنف البنيوي" الكامن في صلب الدولة الدكتاتورية الوطنية والنظام الإمبريالي الكولينيالي المعولم.
إن إطلالة خاطفة على الدولة العربية المعاصرة في التعامل مع الحركات الاحتجاجية وقمعها بوحشية؛ تضيء بشدة على أسباب تنامي الحركات الراديكالية في المنطقة، كما يؤكد منظّرو الحركة الاجتماعية "تشارلز تيلي" و"دوناتيلا ديلا بورتا" و"ماريو دياني"؛ حول أسباب تحوّل الاحتجاجات إلى العنف. فحسب "ديلا بورتا"، إن الحركات تصبح متطرفة بعاملين: تصاعد قمع الشرطة وما وصفتْه بالتصعيد التنافسي، وذلك عندما يتنافس المحتجون لكسب الأجواء ضدّ الخصوم السياسيين وجماعات الاحتجاج الأخرى. وإذا كانت الشرطة وحراس الأمن الخاص سريعين جدا لاستخدام العنف، فإن هذه التفاعلات والاختلاطات تقود المتظاهرين إلى أعمال عنف، فتخلق أفعالهم ما سماه عالم الاجتماع "ويليام غامسون" بـ"إطارات الظلم" في جميع أنحاء الدولة، حيث يصبح يُنظر للدولة إليها على أنها في الأساس غير عادلة، حيث يخلق قمع الدولة تضامنا بين الحركات المشاركة، والتي تبرر حاجتها إلى العنف كشكل من أشكال الدفاع عن النفس، كما عبّرت عنه "ديلا بورتا" بالقول إن العنف يخرج من العنف، وأحد أهم عوامل انتقال مجموعات كانت تشارك في حركات اجتماعية أو سياسية إلى استخدام العنف هو انسداد الأفق السياسي لهذه المجموعات، مما يدفع عدد من المنخرطين بهذه الحركات إلى استخدام العنف.
لطالما فسر عنف الحركات الاجتماعية كرد فعل على عنف السلطة باعتباره بداهة، وكاد العالم في زمن ترامب أن ينسى تلك الحقيقة، لكن السلطة الدكتاتورية العربية تصر على تذكيرنا دوما بتلك المسلّمة، إذ تصر على استخدام العنف المفرط كأداة لممارسة السلطة، حسب محمود هدهود، أو بالأحرى لحماية مشروع سلطة محدد يعود لشخص محدد ومؤسسة محددة: شخص الجنرال ومؤسسته العسكرية، ليتحول إلى خلق عنف مضاد تمكن إدانته، له أسبابه الثقافية وجذوره الاجتماعية، لكنه يبقى قبل كل شيء عنفا مضادا وليد جرعات عالية من عنف الدولة. هنا يصير الدفاع عن عنف الدولة ليس حماية للدولة ولا طريقا إلى إنهاء العنف، وإنما طريق لتقويض شرعية الدولة القائمة بالأساس بهدف تقليل استخدام العنف، وطريقا أيضا لإنتاج عنف اجتماعي بنيوي نابع من عنف الدولة البنيوي ضد المجتمع.
الدولة العربية المعاصرة مغرمة بتعريف الدولة كبنية عنف على رعاياها، واساتذتها مكيافلي وفيبر ولم تصلها منظورات الحوكمة والرشد، فالعنف والقانون أداة في يد الدولة حسب مكيافيلي، فالسلطة لا تستقيم في بنظره إلا بالعنف، رغم تفضيله الجمع في الحكم بين المحبة والخوف، وعند المفاضلة فالخوف هو الأنجع، أما ماكس فيبر فيرى أن للدولة الحق في استعمال العنف، ذلك أن العنف الصادر عن أجهزة الدولة عنف مشروع،لكن فيبر يستند إلى دولة قائمة على مبدأ التعاقد وتخويل الشعب، وفي عالمنا العربي لا تعاقد، بل خضوع، كما تصوره برودون بـ"أن تكون خاضعا للحكومة يعني أنك توجد تحت الحراسة، وأنك مراقب وخاضع للتوجيه ومطلوب من طرف أفراد ليس لديهم العلم ولا الشجاعة والفضيلة. إن وضعيتك كمحكوم تجعلك خاضعا للمراقبة في كل عملية أو صفقة قمت بها، وفي كل حركة. هذا هو عمل الحكومة وعدالتها".
تعتبر مقاربة جيورجيو أغامبن في كتابه "الكائن المستباح: السلطة السيادية والحياة العارية"، مفتاحا تفسيريا للعنف البنيوي للدولة العربية المعاصرة، فطبيعة العلاقةَ بين الحاكم والمواطن. إذ يقرر بأن السيادة تحمل في طياتها القدرة على وضع الحاكم خارج إطار حكم القانون، الأمر الذي ينشئ "حالة الاستثناء"، وهي الحالة التي يصبح فيها المواطن تجسيداً لـ"الحياة العارية"، وهو مفهوم يشير إلى أن حياة المواطن وموته يصبحان كليّاً رهن سلطة الحاكم. و"حالة الاستثناء" (بحسب أغامبن) ليست تدبيراً موقّتاً يُتّخَذ عند وقوع الأزمات، بل هي القاعدة التي ترتكز عليها العلاقة بين الحاكم والمواطن.
كان ميشيل فوكو قد تنبه إلى تحولات معنى الحرب والسياسة، واستخلص من مقولة كلاوزفيتز الشهيرة "السياسة امتداد للحرب بوسائل أخرى"؛ معاني عدة، فقد كشف أن علاقة السلطة السياسية بالمجتمع علاقة ميكافيلية، كعلاقة الصيَّاد الماكر بالفريسة، لا ينحني إلا ليصطادها، علاقة القوي بالضعيف، ولديمومة السلطة عليها إدامة هذه القوة باستمرار في عملية إعادة تثبيت، وذلك في حرب غير مرئية، غير مُفكَّر بها علانية، مسكوتٌ عنها، فلا يوجد سلام حقيقي، وحالة السِّلم التي تعيشها بعض المجتمعات، هي حالة سِلم كاذب ومزيَّف، وللحرب كلمتها النهائية بصيغة قرار، فالسلطة منذ نشأتها تخوض حرباً ضدَّ الأخطار الداخلية، والخارجية، فهي تُمارس قمعا في الداخل، بحجة التهديدات الخارجية الخطيرة وشيكة الوقوع. وتمارس حروباً خارجية، هرباً من أزمات داخليَّة، وهذه الحرب المستمرة يلزمها قوة دائمة، وأنظمة مراقبة وتجسس، إذا تطورت الأمور، إذ تمارس السلطة قمعاً غير مرئيّ ضدَّ الأخطار التي تهدِّد المجتمع والنظام العام، حيث تمَّ إنشاء مؤسسات انضباطية، وذلك لتتمكن السلطة من ممارسة دورها في تشديد الرقابة.
خلاصة القول، أن حدث قتل جمال خاشقجي شكل صدمة بالغة، وجرحا نرجسيا عميقا، حول منظورات العالم المعاصر لمفهوم الدولة والقانون والعنف، وكشف أن الدولة العربية المعاصرة لا تزال تفكر بموضوعة السياسة والدولة بطرق عفا عليها الزمن، وأصبحت تاريخا للفلسفة السياسية، حيث تنمحي المسافة بين الدولة والعصابة. وحسب الفيلسوف الإيطاليّ جورجيو أغامبين، في محاضرته "عن الأمن والإرهاب": "حين تقوم السياسة، كما فهمها منظّرو هذا العلم في القرن الثامن عشر، باختزال نفسها إلى عمل أمنيّ، فإنّ الفارق بين الدولة والإرهاب يهدَّد بالتلاشي. وفي النهاية، قد يشكّل الأمن والإرهاب نظاما قاتلاً واحدًا يقوم فيه كلّ طرف بتسويغ وشَرْعَنة عمل الآخر".