هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اعترف النظام السعودي أخيرا بمقتل الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، بعد حادثة القتل بما يقارب ثلاثة أسابيع، ولا تزال أصابع الاتهام تتوجه إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فيما تُعدّ هذه الحادثة أكبر أزمة دولية تواجه المملكة، لما كشفته من قُبح وجه الوريث السعودي، الذي يتم تجهيزه لإدارة شؤون الدولة الغنية بالنفط.
كشفت الحادثة أمورا عدة على مستوى الحالة العربية كلها، بحكامها ومؤسساتها الرسمية والأهلية:
أول ما كشفته الحادثة أن نُظم الاستبداد لا تتورع عن تجاهل أي ضوابط قانونية أو أخلاقية في تعاملاتها مع المعارضين، فالتسريبات المتعلقة بالحادثة تشير إلى دموية وإجرام يضاهي ما يصنعه تنظيم داعش، لكن الفارق أن داعش ليس نظام حكم يلبّي طموحات الغرب في المنطقة بالمال أو قمع المعارضين، فيتم وصمها بالإرهاب، في حين أن جرائم حكام السعودية والإمارات وسوريا ومصر وحفتر في ليبيا؛ لا تختلف كثيرا عن توصيفات الإرهاب في تعاملاتهم مع المعارضين، بدءا من إخفائهم قسريا، مرورا بالاعتقال المتجاوز للحدود القانونية والدستورية والأحكام غير العادلة، ثم التعذيب البشع الذي يتعرض له المعارضون، ثم القتل بالإهمال الطبي داخل السجون، أو تنفيذ أحكام إعدام دون استنفاد درجات التقاضي، أو التصفية خارج إطار القانون، وانتهاء بتقطيع الجثامين، كما حصل مع الراحل خاشقجي. فنحن أمام حالات داعشية في المنطقة، لكنها تبرع في استرضاء الغرب، كما تبرع في التملص من هذا الوصف وإلصاقه بغيرها، باعتبار احتكارها لاستخدام القوة داخل مجتمعاتها.
مقابل البلادة العربية، نجد التعامل التركي مع القضية يدار باحترافية كبيرة، بدءا من التسريبات التي انطلقت من أول يوم بشكل تدريجي ولم تخرج المعلومات دفعة واحدة لإبقاء القضية ساخنة لأطول فترة ممكنة، مما يزيد من الضغط الدولي على السعودية، إلى الحد الذي دفعهم في النهاية لإخراج رواية تعترف بمقتل الرجل بعد الإنكار الأول، والرواية وإن كانت غير متماسكة أمام التسريبات التركية، فإنها لم تكن لتصدر لولا التعامل التركي الهادئ والضاغط - في آن واحد - مع المسألة. ولا بد من الانتباه إلى أن المملكة قد أضرت بتركيا كثيرا في محاولة الانقلاب سنة 2016 أو في الأزمة الاقتصادية الأخيرة، في إطار الحرب الإماراتية - السعودية على التيار السياسي الإسلامي. ويبدو أنه قد آن الأوان لتقوم تركيا برد الصاع صاعين للمملكة تحديدا، ونجحت في ذلك كالرفض الدولي لرواية السعودية، وخروج أصوات تطالب بالإطاحة بولي العهد السعودي، أيضا بإفشال المؤتمر الاقتصادي الذي حمل عنوان "دافوس الصحراء". وهذه الاحترافية مقابل البلادة ثاني ما كشفته الحادثة البشعة ضد خاشقجي.
أما ثالث ما كشفته الوقائع، أن هناك جمهورا يرفض كل ما يصدر عن تركيا، ولا يريد الإقرار بأي إنجاز يصدر عمن يسمونه "الخليفة"، استهزاء منهم بالرجل وبمؤيديه من الفارّين من جحيم أوطانهم العربية، وبدا أنهم يتعاملون مع التفاصيل باعتبارها تسريبات صحفية لا من الدولة التركية، وربما لو كانت الواقعة على أرض أخرى (حتى لو كانت دولة كالإمارات)، لأشادوا مع كل تسريب بيقظة جهاز الأمن وتنبّهه، أما ما يخرج في القضية فربما منّوا أنفسهم بكونها نجاحات صحفية لوسائل الإعلام لا نجاحات لأجهزة الأمن التركية.
والأمر الرابع، أنه تكشّف ضعف الإعلام العربي مجتمعا في الوقوف أمام كفاءة قناة الجزيرة القطرية، رغم الإنفاق السخي الذي يفوق قطعا ما تنفقه الجزيرة، لكن الواقع يقول إن الدفاع عن الزور والظلم والعدوان يبقى باهتاً مهما كانت صفة وكفاءة المتصدر للدفاع عنه، وأن مقدار التعلّم لا يفيد في التغطية على الجرائم.
الأمر الخامس، أن الإعلام العربي الداعم للملكة احتاج إلى تحويل الهجوم تجاه الولايات المتحدة؛ لأن حكام الإمارات ومصر تحديدا يشاهدون تكرار سيناريو الربيع العربي، عندما تخلّى الغرب عن مبارك وابن علي، وأصبح راسخا لديهم (بعد خمس سنوات من مذابحهم وجرائمهم وإنفاقهم السخي على شراء السلاح الغربي واسترضاء قادته) أن التخلي عنهم عند الإحراج الدولي أمر مطروح مهما قدّموا، كما يتخلّون هم عن القتلة الذين يرسلونهم للتخلص من المعارضين في بلدانهم؛ دون الاكتراث لحجم الخدمات التي قدمها مستخدموهم لهم. وربما كانت وفاة أحد أعضاء فريق اغتيال خاشقجي في هذا الإطار، كما سيتحمّل تبعات العملية هؤلاء الأعضاء تحديدا وبعض المتّصلين بالمسألة، في محاولة بائسة لإنقاذ مستقبل ولي العهد.
أصبحت أجواء 2011 تلوح كسحب كثيفة في أفق حكام المنطقة، لكنها من جهة تخلي الغرب عنهم رغم خدماتهم، لا من جهة الحراك الشعبي. وربما يكون أبلغ تعبير عن لسان حال الحكام ما قاله ولي العهد السعودي لصهر ترامب ومستشار الأمن القومي الأمريكي جاريد كوشنر؛ أنه لن ينسى انقلاب الغرب ضده، كما نقلت وول ستريت جورنال الأمريكية عن أحد المقربين من البلاط الملكي السعودي.
إننا نتمنى أن يفهم القادة الداعمون للمستبدين في المنطقة أن الاستبداد لا حدود لسلوكياته غير الأخلاقية، وأن دعمهم يقوّض مكانتهم لدى الشعوب المكلومة والمقهورة، بكل ما يحمله معنى القهر من دلالة، وأن الشعوب العربية عند اختيارها في صناديق الانتخابات لتيارات معارضة للغرب، فإنها تعاديه بسبب ظلمه ودعمه لهضم حقوقها، لا لمجرد العداوة. فشعوب المنطقة لو تخلصت من الاستبداد لن تكون ملتفتة إلى العداوات، بل ستكون مندفعة لتحقيق ذاتها، وتغيير واقعها المرير.
ونتمنى أن يُفهم أن العنف يتم تصنيعه في أروقة النظم المستبدة غير المؤمنة بكل قيم الخير، فأي ابن يمكنه التماسك عندما يعلم أن جثة أبيه تم تقطيعها بمنشار؟ كيف يتماسك أمام عدم توجهه لحمل السلاح في مواجهة المجرمين؟ ومن يمكنه الوثوق في أن المعارضة السلمية ستكون مجدية مع هؤلاء المجرمين؟ كيف سيتم احتواء الشباب الطامح في رؤية بلدانهم بحال أفضل عندما يرون مصير رجل هادئ النقد في خطابه كخاشقجي رحمه الله؟
إن إجرام السلطات المستبدة هو الذي يقوّض الأمن في المنطقة كلها؛ إذ بالاستبداد ينمو التطرف، والأفكار مهما كانت متطرفة فستموت في بيئة ديمقراطية تقوم بتطوير نفسها دائما وتقويم مساراتها. أما الاستبداد، فسيبقى هو القنبلة الموقوتة في وجه الجميع ما لم يتم استئصاله، ونحن أمام فرصة مهمة لتحقيق ذلك، ودرس أهم لإدراك تبعات بقائه.