يُعرف عن زعيم حزب
الحركة القومية في
تركيا، دولت بهشتلي، أنه صاحب المواقف والقرارات المفاجئة التي بدأت مراحل جديدة ومختلفة في السياسة التركية في العشرين سنة الأخيرة.
فهو من دعا لانتخابات مبكرة عام 2002؛ أتت بالعدالة والتنمية ليحكم منفرداً، وهو من دعم انتخاب عبد الله غل لرئاسة الجمهورية في 2007 بعد أزمة كبيرة في البلاد، وهو الذي نادى بإقرار النظام الرئاسي بعد الانقلاب الفاشل، وهو الذي دعا لتبكير
الانتخابات الرئاسية والبرلمانية هذا العام. ويبدو أنه قد اتخذ قراراً حساساً آخر حين أعلن عن
عدم رغبة حزبه بالتحالف مع العدالة والتنمية في
الانتخابات المحلية (البلدية) المقبلة، نهاية آذار/مارس القادم، ما أوحى بأزمة كبيرة بين الحزبين.
التحالف بين الحزبين، المسمى تحالف الجمهور أو الشعب، وعلى عكس تحالف المعارضة، كان أبعد وأعمق من تحالف انتخابي، فقد بدأ قبل الانتخابات بفترة طويلة، وإن اكتسب صفة رسمية بعد تعديل قانون الانتخاب والسماح دستورياً بالتحالفات الانتخابية العام الفائت، حيث ساهمت عدة عوامل في التقارب الكبير بين الحزبين اليمينيَّيْن على رأسها المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، بحيث باتا متفاهمين على معظم السياسات الداخلية والخارجية الفترة السابقة.
في هذه الفترة التي امتدت حوالي ثلاث سنين، استفاد الطرفان من هذا التحالف بدرجات متفاوتة. فالعدالة والتنمية تمكن من تمرير النظام الرئاسي من البرلمان للاستفتاء الشعبي بدعم من الحركة القومية، كما أنه ضمن فوز أردوغان بالرئاسة من الجولة الأولى؛ بفضل التحالف معه، والذي منح تحالفهما أيضاً الأغلبية البرلمانية، فضلاً عن دعم قرارات وتوجهات الحكومة في عدة ملفات في الداخل والخارج، في مقدمتها "مكافحة الإرهاب" ومواجهة التنظيم الموازي والعمليات العسكرية خارج الحدود.
في المقابل، ضمن بهشتلي استمرار قيادته لحزبه بعد أزمة كبيرة كادت أن تطيح به، حيث استثمر تلك الفترة ودعم أردوغان والعدالة والتنمية له في مواجهة خصومه ثم إخراجهم من الحزب، وهم الذين أسسوا لاحقاً الحزب الجيد أو الصالح. كما أن الحركة القومية ضمن دخول البرلمان من خلال التحالف مع
العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة، حين كانت معظم استطلاعات الرأي تظهر احتمالية فشله في تخطي العتبة الانتخابية.
بيد أن نتائج الانتخابات الأخيرة أعادت للقوميين ثقتهم بأنفسهم، ولم يعودوا يشعرون بأنهم "الطرف الأصغر" أو الأضعف في التحالف (وهو ما أشار له بهشتلي بشكل واضح)، خصوصاً أن العدالة والتنمية لم يحصل على أغلبية البرلمان بمفرده، ما يعني حاجته لهم في إقرار القوانين، فضلاً عن أي تفكير بتعديلات دستورية أو صياغة دستور جديد.
ولذا، فقد أصبحت الاختلافات بين الحزبين أكثر وضوحاً بعد الانتخابات، وشهدت الساحة السياسية الداخلية خطاباً حاداً بين الحزبين لأول مرة منذ مدة طويلة. الملف الخلافي الأهم كان إصرار الحركة القومية على مشروع عفو عام يشمل؛ تخفيض فترة السجن لعدد من الجرائم والجنح، وتقديمه للبرلمان رغم معارضة العدالة والتنمية له بشكل واضح ومعلن.
يعتمد موقف العدالة والتنمية على أن الدولة تملك صلاحية العفو العام فقط عن الجرائم المرتكبة بحقها، وليس عن تلك التي تشمل حقاً شخصياً لمواطنين. لكن أردوغان ذهب إلى أبعد من ذلك، حين قال إن حزبه لا يريد أن يُذكَرَ على أنه من أخرج تجار المخدرات من السجن، وهو ما اعتبره بهشاتلي تعريضاً بحزبه واتهاماً له، رادّاً بحدة على أردوغان.
الملف الخلافي الثاني الذي تبلور خلال الأيام القليلة الماضية؛ هو تأييد الحركة القومية لقرار مجلس القضاء الأعلى بإعادة "القَسَم الطلابي" للمدارس الذي كانت ألغته حزمة من الإصلاحات الديمقراطية عام 2013، ويعتبره العدالة والتنمية مظهراً للتفرقة بين المواطنين (إذ يتضمن قول "أنا تركي" في تجاهل للعرقيات الأخرى)، كما يعتبر القرار تدخلاً قضائياً في قرارات تنفيذية وتشريعية، فيما تعتبره الحركة القومية تعبيراً عن القومية التركية وانتماء الشعب ووحدته.
يوم الثلاثاء الماضي، وفي كلمته أمام كتلة حزبه البرلمانية، أعلن بهشتلي أن الحركة القومية لم يعد راغباً ولا آملاً في التحالف مع العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية المقبلة، الأمر الذي يناقشه الطرفان منذ أسابيع، وكان يفترض أن يبت به رئيسا الحزبين (أردوغان وبهشتلي) في نهاية المطاف. ورغم أن كلا الزعيمين قالا إن فكرة التحالف الانتخابي هي التي لم تعد قائمة بينما "تحالف الشعب" القائم على دعم سياسات عليا مشتركة واتجاهات استراتيجية للدولة ما زال قائماً ولا مشكلة فيه، إلا أن الأوساط السياسية تلقت الخبر على أنه إرهاصات فض التحالف.
ومما يدعم ذلك التقييم، الحدة البالغة في خطاب بهشتلي، وحسمه موضوع التحالف الانتخابي قبل لقاء أردوغان واتخاذ قرار مشترك بشأنه، وإعلانه عدم المشاركة في احتفال "عيد الجمهورية" الذي تنظمه مؤسسة الرئاسة يوم الاثنين (29 تشرين الأول/ أكتوبر)، إضافة لاستهدافه أحد قيادات العدالة والتنمية "الكردية"، وهو النائب الحالي والوزير السابق بكير بوزداغ، بخطاب هجومي حاد اعتبره أردوغان إهانة وتهديداً لـ"رفيق دربه"؛ معلناً دعمه له.
أكثر من ذلك، يرى البعض أن خطوة بهشتلي كان مخططاً لها مسبقاً، بدليل أنه صدَّر موقفاً ناقداً لقرار إطلاق سراح القس الأمريكي وتعامل الحكومة مع الملف مؤخراً. بل لم يغب عن المتابعين الحماسة البالغة والتصفيق الحاد وقوفاً؛ اللذَيْن قابل بهما نواب الحركة القومية قرار رئيسهم بعدم التحالف مع العدالة والتنمية في الانتخابات.
نهاية التحالف، انتخابياً و/أو سياسياً ستكون له تداعيات بالتأكيد على الأقل على صعيد عمل البرلمان ونتائج الانتخابات البلدية المقبلة، لا سيما في المدن الكبيرة التي تشهد تنافساً محتدماً، وفي مقدمتها أنقرة وإسطنبول، وهو أمر يحتاج تفصيلاً أكبر من مساحة هذا المقال على أي حال، لكن الواضح أن العدالة والتنمية يقف إزاء مرحلة جديدة وتحديات مختلفة هذه المرة وفي الفترة المقبلة.