لعل عمليَّة
التغيير السوسيو-معرفي هي أشق المهام التي يتعيَّن على كل مجتمع الاضطلاع بها، مرة واحدة على الأقل في كل دورة تاريخيَّة، لا لأنها تلزمها كتلة حرجة ذات مواصفات خاصة فحسب، بل لأن المفتاح الوحيد لنجاح هذه العمليَّة هو في الوقت نفسه
المسؤولية الأعظم جسامة، التي تقع على عاتق الكتلة الحرجة التي تضطلع بعمل المحفِّز للتغيير. هذه المسؤولية، على عكس ما يتوهَّم أكثر المسيَّسين، مسؤولية أخلاقية في المقام الأول.. مسؤولية أخلاقية تجاه الله ثم تجاه الناس.. مسؤولية رعاية حقوق الله في عباده، كل عباده؛ المسلم والكافر، والمؤمن والفاسق. إن هذه المسؤولية تعني أن الكتلة الحرجة/ العصبة المؤمنة، التي تُحقِّق وتَتَحقَّق باللحظة النماذجية التاريخية، التي يتمخَّض عنها التغيير الاجتماعي، لن تمتنع فحسب عن ممارسة القمع والاضطهادالسياسي ضد مخالفيها (مهما كان التسويغ) حين تصل للسلطة، بل يعني أنها سوف تتعفَّف كُليّا عن خداع الجماهير ومخاتلتهم، أو استغلالهم باسم المصلحة العامة أو باسم الشرع.
إن السُلطة المؤمنة التي تتبوأ مقعد الاستخلاف؛ تُحرِزُ ذلك باسم الله وبتوفيق منه. ولم يُحِلّ الله لعباده العبث بأعراض وأموال ودماء خلقه، ولا حتى باسمه جلَّ شأنه، وإنما قيَّد التصرُّف في ذلك كله بحدود شرعيَّة جِد ضيقة. وقد كان الإمام عليَّا- عليه السلام - يمر يوميّا بابن ملجم - عليه لعنة الله - وهو يشحذ سيفه؛ فيسأله: أما آن لك أن تضرب هذه (يعني جبهته) فتُخضِّب هذه (يعني لحيته)؟ كان يعرف أنه مقتول، ومع ذلك لم يعتقل الخارجي بالشبهة، ولا حتى بذريعة "الحفاظ على أمن الدولة". ومن يتأمل وصيته لبني هاشم وهو على فراش الموت، في شأن قاتله، يُدرك أننا نتحدث عن نموذج أخلاقي مختلف تماما عن ذلك الذي تطرحه الدول البائسة المسماة إسلامية، ناهيك عن الحركات والأحزاب المنسوبة للإسلام.
لقد كان الإمام يعرف أنه مقتول، ومن قبله عرف الفاروق ذلك في لحن المجوسي أبو لؤلؤة، وما زاد على التبسُّم والتندُّر بوعيد العبد! ذلك أن وعي الإمام الحق، المختار لهذه اللحظة النماذجية، هو وعي أخلاقي وتاريخي مُتفرِّد.. وعي بأنه ليس عاجزا فحسب عن إطالة اللحظة النماذجية بإطالة حياته، بل وأن مُجرَّد المحاولة العبثية لإطالة حياته قد تقوض
النموذج كله، ليتردَّى في هاوية الملك الجبري؛ ولن يطول عمره مع ذلك ساعة. إن هذا الوعي ليس جبريَّة تاريخية بقدر ما هو إعلاء للقيم والموازين والمقاصِد الشرعيَّة التي كُلِّف الإمام بحراستها إذ استُخلِف، فآمن أن حاكميَّة الشرع أغلى من حياته، مهما كان فضله؛ ولو كان من السابقين الأولين.
لقد أدرك الأفراد المصطفين لصُحبة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الجيل أن سقوط قيمة العدل (بوصفها أهم أركان المسؤولية
الأخلاقية) لم يكن ليضيف إلى آجالهم، بل سيُحمِّلهم أوزار من يستن بهم. إن الإمام الذي تحصل له بيعة في مثل هذا الظرف التاريخي النماذجي القصير؛ يدرك تماما أن النسق سرعان ما سيتقوَّض متى انتهت مهمته الزمنية في إقامة الحجة على بني آدم، بتطبيقه النماذجي (والقاصر!) للقيم الإلهيَّة المقدَّسة؛ لكنه يعرف أيضا أن تقويض النسق على يديه إثمٌ عظيم لا ينبغي أن يجترحه أبدا، بل ولا يُمكنه حتى التفكير فيه، ناهيك عن أن يلقى الله به.. إثم قد يَجُبُّ كل ما قدَّم والعياذ بالله. إن هذه المسؤولية الأخلاقية هي جوهر وظيفة الحقبة الراشدة، وهي قلب الوعي الراشدي بالتاريخ وبالسنن الإلهية، وبواجبات الدعوة إلى الله، وبمقتضيات الاستخلاف عنه سبحانه. إنه تأدُّب مع الله لا يقدر عليه إلا قلة نادرة ممن اصطنعهم الله لنفسه وصنعهم على عينه.
إن السلطة السياسية والاجتماعية التي يمثلها الإمام في الإسلام هي سلطة أخلاقية في المقام الأول؛ سلطة لا تتحقَّق بإدارة الشأن السياسي، ولا بالسيطرة على الموارد الاقتصادية، ولا ببيع الوهم للجماهير؛ بل بتقوى الله... فقط. إن هذه التقوى بعينها هي التي تضمن حسن أداء الإمام لكل المهام التي وكِّل بها بحكم اللحظة التاريخية وبحسب مقتضيات البيعة، إذ التقوى هي التي تشكل حدود السلطة الزمنيَّة/ السياسيَّة وآلياتها وأدواتها، وهذه التقوى عينها هي التي تراقبها الأمة، بلسانها ويدها إن لزم الأمر. ذلك أن العلاقة بين الأمة والسلطة السياسية في الإسلام ليست عقدا اجتماعيّا سياسيّا تواضعوا عليه، بل هي أصلا، وقبل ذلك وبعده وفوقه، ميثاق أخلاقي على اتقاء النار برد الأمور كلها إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم.. تسليم بالتحاكُم إلى الله في المنشط والمكره، ولا يمكن أن يخضع راضيا بالتحاكم إلى الله، واجتناب الهوى؛ إلا تقي.
وإذا كانت اللحظة النماذجية المنتَظَرة مجرد غيب، وإذا كان طولها المرتَقَب غير معلوم، وإذا كان الوصول لها يعني حتميَّة تقوّضها بعد استنفادها لطاقتها، لتُعيد الجماعة الإنسانية المحاولة والمكابدة داخل التاريخ الذي لا نعلم نهايته؛ فإن الشرط الأهم الذي قد يدفع بنا للاقتراب من اللحظة النماذجية هو دوام
الإخلاص في الاضطلاع بالمسؤولية الأخلاقية التي بها تتشكَّل الكتلة الحرجة (العصبة المؤمنة)، وتتشقق الآفاق عن فجر جديد للحظة نماذجية جديدة. إن المسؤولية الأخلاقية لا تقتضي الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحسب، ولا تُغني فيها الشعارات والترهات والجماعات والأحزاب، ومدى صلابتها التنظيمية أو حجم جماهيريتها الآنية أو قدرتها الدعائية على إشباع الحاجات الديماغوغية للجماهير.. إنها لا تقتضي إلا أمرا واحدا: الإخلاص الحقيقي في الاضطلاع بها، دائما وأبدا. ومتى علم الله هذا الإخلاص من عباده؛ أذِن بتمكينهم من الدعوة إليه، واستخلفهم على عباده لرعاية أمور دينهم ودنياهم، وجعل منهم أئمة يهدون بأمره لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون. وسبحان من لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون.