عندما بدأت سلسلة مقالاتي "رجال من ذهب" قبل الانقلاب العسكري، توقفت بعد المقال الأول، والذي كان عن الشيخ عبد الحميد كشك، وجاء عنوانه "الرجل الذي قال للدنيا غرّي غيري"، فقد فوجئت بردة الفعل، ومن قبل زملاء كنت أتوقع ألا تشغلهم مثل هذه المقالات، أو تلك الشخصيات، فأينما أولّي وجهي أسمع إشادة بالمقال، وهناك من طالبوني بأن أكتب حلقات أخرى عن الشيخ، رغم أن ما كتبته كان في حدود ثلاثة آلاف كلمة، واحتل صفحة كاملة من جريدة "الأحرار"!
وفكرت جاداً في الاستجابة للدعوة، لكني توقفت عن كتابة السلسلة كلية، مخافة ألا تكون في مستوى مقالي الأول؛ الذي شعرت فيه أن بركة الشيخ تحيط بي، فكتبته بحبر العاطفة. فهل أضمن أن تستمر في حلقات أخرى، وهل أضمن أن تشملني "بركته" وأنا أكتب عن الآخرين؟
ولعلها المرة الأولى التي أتراجع فيها عن الكتابة بسبب هذا الدافع، مع أني كنت قبل أن أشرع في كتابة هذه السلسلة، أن أصدرها في كتاب، كما فعل الراحل مصطفي أمين بعدما انتهى من سلسلة مقالاته "شخصيات لا تُنسى" في جريدة "أخبار اليوم". وعندما بدأت الكتابة، كنت أمنّي النفس بكتابة هادئة، تأخذنا بعيداً عن الأجواء السياسية المشحونة، فإذا بالاهتمام بالمقال يفوق الاهتمام بالكتابة عن الأمور الأنية!
فارس المنابر
لقد كان الشيخ كشك فارس المنابر بلا منازع، والخطيب غير المسبوق في سماته، والذي لا يشق له غبار، ثم إنه لم يداهن ولم يتقرب لأهل الحكم بالنوافل، وعندما فشلت الإغراءات في أن تؤثر فيه، كان التهديد بفصله من وظيفته، وأن يصل الإيذاء لأسرته، لكنه، ومن فوق المنبر، أعلن أن هذا كله لا يخيفه، ولن يمنعه من أن يقول الحق!
وقد بلغ صيته الآفاق، فلم يكن يمشي في الأرض مرحاً. ومن عرفوه عن قرب أدهشهم أن يكون هذا هو، فقد كان يبدو وديعاً، فهل كانت له شخصيتان؛ واحدة على المنبر، وأخرى خارج المسجد؟!
هناك خلط بين شخصية القائد السياسي والداعية الشجاع، ولم يكن الشيخ كشك زعيما سياسياً، وإن كان البعض نظر إليه على هذا النحو، فلم يكن أكثر من داعية، ولم يعتبر أن هناك موقعاً آخر أهم من مقام
الدعوة، فكان دعاؤه: اللهم أحيني إماماً وأمتني إماما، ولا تقبض روحي إلا وأنا ساجد.
بيد أن من قرأوا من مذكراته (وأحسب أن من أنتجوا فيلمه الوثائقي، لم يعرفوا حتى بصدورها، فأفسدوا الفكرة بهذا العمل الهزيل) سوف يقفون على هذا الواقعة؛ التي من خلالها عرفنا أن وزارة الأوقاف تدار من قبل مسؤول الأمن فيها!
لقد استدعته الوزارة، وهناك وجد نفسه في مكتب وكيل الوزارة لشؤون الأمن، الذي ارتفع صوته وهو يخاطب الشيخ وضرب بيده على مكتبه، لكن الشيخ رفض هذا الأسلوب معه، وقال: إنني لا أسمح لك بأن تخاطبني هكذا، وأن تضرب بيدك على مكتبك وأنت تتحدث معي، فلست لصاً وأنت الشريف. وهنا أصيب اللواء بالهلع وأغرقه بالاعتذار، ورجاه ألا يذكر شيئاً مما حدث للمصلين!
ضد الشعراوي
والشيخ نفسه، ومع أنه يخضع وظيفياً لوزير الأوقاف، إلا أن هذا لم يمنعه من أن يهاجم الوزير من فوق المنبر، في واقعة "لا يسأل عما يفعل"، وقد تذكرت الآن أنه كان ينبغي أن أسأله عما جرى بعد هذه الخطبة؛ من إمام بالأوقاف يهاجم وزيره بهذه القوة في خطبة تاريخية!
عندما هتف الشيخ عاشور في مجلس الشعب بسقوط السادات، كان وزير الأوقاف هو الشيخ محمد متولي الشعراوي. وكان مصطفى كامل مراد عضو المجلس قد تحدث عن سوء حالة رغيف الخبز، ليدخل موظفو الوزارة إلى القاعة بأرغفة صنعت خصيصا للرد، وهتف عضو المجلس الشيخ عاشور: هذا مسرح، ليصدر قرار من سيد مرعي رئيس المجلس بطرده من الجلسة، وحدث هرج ومرج وقال الشيخ ما قال، ودفع ثمن هذا فصله من عضوية المجلس في جلسة خطب فيها الشعراوي في سقطة له وهو يقول: "لو كان بيدي شيء من الأمر لرفعت هذا الحاكم لدرجة من لا يسأل عما يفعل".
وهي المقولة التي يرددها الآن محبوه؛ على أنها كانت موقفا هجومياً ضد السادات، والمقصود بها أنه رُفع عنه القلم، والذي يرفع عن ثلاث: "النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يعقل"، وقد انتزعوا ما قيل من سياقه، فقد كانت في سياق التبجيل والتفخيم، لكنهم الناس إذا أحبوا!
في يوم الجمعة، كان الشيخ كشك ينتصر للشيخ عاشور، والذي خذله نواب البرلمان، وهاجم الشعراوي وهو يسأله: من الذي لا يُسأل عما يفعل يا شعراوي؟.. فيرد المصلون: الله. فيعيدها مرة ومرات، تارة مخاطبا الشعراوي باسمه مجرداً ومرة وهو يسبق اسمه بلقب "شيخ".. وبدا الشيخ وبالمأوبين معه كأنه يقصف جبهة وزير الأوقاف الشيخ الشعراوي، وقد قال له ألم تقرأ قوله تعالى: "لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون"؟!
ولم يتوقف هجومه على وزير الأوقاف في هذه المرحلة، وإنما هاجم شيخ الأزهر رأساً، وقال: أتحدى لو كان شيخ الأزهر يحفظ القرآن الكريم. وكان المعني بهذا الشيخ عبد الرحمن بيصار!
الشيخ وعبد الرحمن الأبنودي
لكنه لم يكن في كل هجومه حاداً، فقد كان ليّنا ساخراً إذا كان الهجوم في دروسه تحت المنبر، وكان إذا هاجم ساخراً كان نفس الأثر لمن هاجمهم غاضباً!
لقد ذكر أنه كان في سجنه عندما وجد أحد المعتقلين في الزنزانة حزيناً؛ لأنه في بلد لا تستحق إنجازاته والتي تنكرت له، وكان ثمن ما قدمه لها هو اعتقاله، ليسأل الشيخ عما قدم من إنجازات، فيقول السجين الحزين إن كان فعلاً لا يعرفه، لكن الشيخ يرد عليه: بأن العتب على النظر!
وهنا كانت المفاجأة أن من يخاطبه كان هو الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي عرف نفسه بأهم إنجازاته التي قدمها لمصر، وهي أغنية "تحت الشجر يا وهيبة.. لما كلنا برتقال"!
"ونِعم الإنجازات"، لكن "الأبنودي" انتظر لحوالي عشرين سنة من ذكر هذه الواقعة، وفي الشهر الذي مات فيه الشيخ كشك، كتب في يوميات جريدة "الأخبار"، أن أحد الأشخاص نقل إليه هجوم أحد الدعاة ضده (لم يسمه) وذكر واقعة حدثت بينهما في المعتقل، وهو يود أن يؤكد أن هذا الداعية يكذب، لأنه لم يكن معه في المعتقل!
لقد دعا الشيخ كشك ربه: أن يقبض روحه وهو ساجد. وفي يوم الجمعة 6 كانون الأول/ ديسمبر سنة 1996، وبينما كان يصلي في منزله ركعتين قبل نزوله للصلاة، فسجد ولم يرفع رأسه، لتكتشف زوجته أن روحه قد غادرت جسده.
كان مقر جريدة "الأحرار" قد انتقل إلى حي "حدائق القبة"، حيث يسكن الشيخ بالقرب في زمام هذا الحي، وعلمت بخبر الوفاة مع العصر، وخشيت من الاتصال بمنزله فيكون الخبر غير صحيح، مع ما يسببه هذا من إحراج، فاتصلت بمأمور قسم الحدائق الذي أبلغني بصحة الخبر، وحرص أن يؤكد أنه دفن وشيع إلى مثواه الأخير.
وقد علمت بعد ذلك، أن الأمن وخوفا من جنازة شعبية تكشف أن الرجل الذي غُيّب عن منبره كل هذه السنوات ومنذ شهر أيلول/ سبتمبر 1981، لا يزال ملء السمع والبصر، فلم يسمحوا حتى بأن يصلى عليه بعد صلاة الجمعة، وقال الأمن لأسرته إن لم تدفنوه حالاً، دفناه نحن.
لقد انتهى
مبارك ووزير داخليته، وبقي اسم الشيخ كشك كفارس من فرسان الدعوة.. دخل التاريخ من أوسع أبوابه، بينما دخلا هما التاريخ بظهورهما.
رحم الله الشيخ كشك.