"أعطني صاعقا كهربائيا واختر أحد الجالسين في القاعة الآن، وسأجعله يعترف بأنه قتل السادات".
قالها محمود الأحمدي أمام الكاميرات في إحدى جلسات محاكمته بتهمة اغتيال النائب العام المستشار هشام بركات، عندما واجهه القاضي بأقواله السابقة التي اعترف فيها بمسؤوليته عن الحادث، ثم انطلق متحدثا عن التعذيب الذي تعرض لها وباقي المتهمين للحصول على هذه الاعترافات.
لم يغير حديث الأحمدي في الأمر شيئا.. أيدت المحكمة الحكم بإعدامه وثمانية آخرين، وصبيحة العشرين من شباط/ فبراير 2019 تم تنفيذ الحكم وإبلاغ ذويهم لاستلام الجثث. لا يمكن القول يقينا بأنهم أبرياء، كما لا تجعلنا سوابق أجهزة إنفاذ القانون في مصر نثق تماما في كونهم (جميعهم على الأقل) مدانين.
نعم، اعترف المتهمون بالقتل، لكن حبيبة كانت قد اعترفت أيضا.. ممثلة مصرية ألقت الشرطة القبض عليها عام 1998 بتهمة قتل زوجها، وصلت إلى النيابة باعتراف مكتوب بخط اليد يؤكد ارتكابها الجريمة بدافع الطمع في ثروة الزوج، وأحالتها النيابة بدورها إلى المحكمة ليصدر ضدها حكم بالسجن لمدة 10 سنوات، رغم أن القانون كان يتيح للقاضي الوصول بالعقوبة إلى الإعدام باعتبارها جناية قتل عمد.
لا يمكن القول يقينا بأنهم أبرياء، كما لا تجعلنا سوابق أجهزة إنفاذ القانون في مصر نثق تماما في كونهم (غالبيتهم على الأقل) مدانين
قضت حبيبة خمس سنوات في السجن، حتى حاول أحد الأشخاص بيع ساعة ذهبية كانت ضمن مسروقات القتيل. ألقت الشرطة القبض عليه، وباستجوابه اتضح أنه القاتل الحقيقي، وأنه ارتكب جريمته بمساعدة آخرين من أجل سرقة الزوج. فُتحت القضية من جديد وأعيدت التحقيقات، ليتضح أن ضابط الشرطة عذّب الممثلة حتى اعترفت على نفسها بجريمة لم ترتكبها، للخلاص من التعذيب. وفي نيسان/ أبريل 2004 قضت المحكمة بإلغاء حكم السجن بعد أن كانت قد أمضت نصف المدة فعلا.
ظهرت براءة حبيبة وخرجت من السجن، وحصلت على تعويض كبير من وزارة الداخلية.. وربما تظهر براءة أحد المتهمين بقتل النائب العام لاحقا، لكن وقتها لن تكون هناك فرصة لرفع الظلم عنه؛ لأنه فارق الحياة.. وهل غيّرت براءة المتهمين بقتل "ريجيني" من الأمر شيئا؟
فبعد شهرين من العثور على جثة الباحث الإيطالي الشاب
جوليو ريجيني وعليها آثار تعذيب، أعلنت الشرطة عن تصفية خمسة أشخاص أطلقت عليهم اسم "تنظيم سرقةالأجانب في مصر"، في تبادل مزعوم لإطلاق النار مع قوات كانت تحاول إلقاء القبض عليهم. وقال البيان الرسمي إن أفراد العصابة اختطفوا جوليو وعذبوه وقتلوه بدافع السرقة، وإن الشرطة عثرت داخل شقة أحدهم على متعلقات القتيل وجواز سفره.
اعترف النائب العام المصري نبيل صادق لنظيره في روما بعدم وجود روابط قوية بين مقتل جوليو والعصابة التي قتلها الأمن!
بعدها تكشّف أن الواقعة مختلقة بالكامل، وأن القتلى الخمسة لا يعرفون ريجيني من الأساس، وأنهم تعرضوا لإعدام ميداني في محاولة لإقفال القضية التي كانت تشغل الرأي العام في مصر وإيطاليا. واعترف النائب العام المصري نبيل صادق لنظيره في روما بعدم وجود روابط قوية بين مقتل جوليو والعصابة التي قتلها الأمن!
بين الواقعتين كانت واقعة شهيرة أخرى حدثت في العام 2007، حين تغيبت فتاة عن منزلها في الإسكندرية لفترة طويلة، واتهم أحد أقاربها والدالفتاة بقتلها. تحركت الشرطة وألقت القبض على الأب الذي اعترف بقتل ابنته والتخلص من جثتها. وأمام المحكمة أنكر الرجل بحسم ارتكابه الجريمة، وأكد أن اعترافاته كانت أيضا تحت التعذيب الذي تعرض له عندما كان في قبضة الشرطة، غير أن كلامه لم يجد من هيئة المحكمة آذانا صاغية، واستمرت جلسات المحاكمة حتى حدثت المفاجأة لاحقا وظهرت الفتاة بنفسها في قاعة المحكمة، وقالت إنها كانت هاربة وعادت عندما اكتشفت أن والدها قد يُعدم ظلما بسببها!
تلفيق الأدلة واختلاق الوقائع لم يغب يوما عن أداء أجهزة الأمن في مصر. ثورة 25 يناير كان من أهم محركاتها قتل الشاب خالد سعيد أثناء محاولة تلفيق قضية حيازة مخدرات له، وقتل الشاب سيد بلال أثناء تعذيبه داخل مقر أمني
ليست مبالغات سينمائية ولا خيالات كتّاب إثارة، بل هي وقائع ثابتة تداولها الإعلام المصري ووثقتها محاضر وبيانات رسمية في حينها. تلفيق الأدلة واختلاق الوقائع لم يغب يوما عن أداء أجهزة الأمن في مصر. ثورة 25 يناير كان من أهم محركاتها قتل الشاب خالد سعيد أثناء محاولة تلفيق قضية حيازة مخدرات له، وقتل الشاب سيد بلال أثناء تعذيبه داخل مقر أمني للاعتراف بالمشاركة في تفجير كنيسة القديسين. في واقع كهذا، لا يمكن أن تُترك حياة الأشخاص، التي هي غاية كل القوانين والمواثيق الدولية، في ذمة أجهزة أمن تحمل ميراثا ثقيلا من الشك،
وجهاز قضائي يأتي في المرتبة 110 بمؤشر نزاهة القضاء، من إجمالي 113 دولة شملها مؤشر مشروع العدالة العالمية.
خلال الأسبوعين اللذين سبقا إعدام المتهمين التسعة بقتل النائب العام، تم تنفيذ حكم الإعدام بحق ثلاثة آخرين اتُهموا بقتل ضابط شرطة عام 2013، وثلاثة غيرهم في قضايا منفصلة، وبين آذار/ مارس 2014 حين أحال المستشار سعيد يوسف، رئيس الدائرة السابعة بمحكمة جنايات المنيا، أوراق 529 متهما إلى مفتي الجمهورية دفعة واحدة تمهيدا لإعدامهم، وشباط/ فبراير 2019، صدرت الآلاف من أحكام الإعدام وُنفذ مئات منها.
إنه توسع مخيف وضع مصر في المرتبة السادسة عالميا في
تنفيذ أحكام الإعدام، وفق تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في نيسان/ أبريل الماضي. وربما تتقدم مصر أكثر في التقرير المقبل، بعد تنفيذ عدد كبير من
الإعدامات في العام الأخير. لا يعبر هذا التوسع عن رغبة في تحقيق العدالة بقدر ما تحركه شهوة الانتقام والتخويف وإرضاء الأنصار. يعتقد كثيرون، ممن هم على مقاعد السلطة، أن صور المتهمين على أعواد المشانق ستردع أولئك المختبئين في الأقبية ينتظرون اللحظة السانحة للهجوم، لكن الأكيد أن من يحيط خصره بحزام ناسف لتفجير نفسه لن يعبأ كثيرا إذا تحولت طريقة موته إلى الشنق.
ثمّة أشياء تفصل الدول الحديثة عن المجتمعات البدائية، ربما أهمها أن الدولة الحديثة لا تحركها غريزة الثأر، بل تكبح جماح انتقامها الذي لا يأتي في الغالب سوى بانتقام مضاد يزيد دائرة الدماء اتساعا ويصب على نار الغضب مزيدا من الزيت.
الدولة الحديثة لا تحركها غريزة الثأر، بل تكبح جماح انتقامها الذي لا يأتي في الغالب سوى بانتقام مضاد
كثيرون يدركون كل ما سبق، لكنهم يدعمون استمرار
تطبيق عقوبة الإعدام؛ رغبة في "الردع" وخوفا من أن يتسبب إلغاؤها في إفلات مدانين من العقاب. الإعدام عقوبة غير آدمية في حد ذاته، لكن الأسوأ أن يتحول إلى إجراء احترازي.. قتل من باب الاحتياط.
لا يحقق الإعدام ردعا، فجرائم كالقتل والاغتصاب والسطو المسلح يعاقب عليها بالإعدام منذ مئات السنين، وما زالت تُرتكب يوميا إلى الآن. لا يُنهي الإعدام إرهابا، ولا يأتي باستقرار. الدولة المصرية نفسها مرت بتجربة دموية مع الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، دفعت ضريبتها أرواح مئات وربما آلاف من رجال الأمن والسياح والمسؤولين والمواطنين، ومات من الإرهابيين مئات أو آلاف بالرصاص وعلى المشانق، ولم تنته هذه الحقبة إلا بمراجعات فكرية أشرفت عليها الدولة نفسها، بعدما اكتشفت متأخرا أن تجريد الإرهاب من مرجعيته الفكرية والدينية أهم كثيرا من مصادرة بنادقه.
وكأن قدرنا أن نفني أعمارنا في تكرار البديهيات: مواجهة الإرهاب لن تُحسم بالمواجهة الأمنية وحدها.. الدول لا تُبنى بالقمع والتخويف والإقصاء.. الردع لم يتحقق
بكثرة الإعدامات.
لا يوجد نظام قضائي مُحكم لدرجة تمنع إدانة بريء، فإذا لم يكن بوسعنا أن نمنع إدانة بريء، فأضعف الإيمان أن نمنع قتله.