مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تونس، تزداد مركزية حركة النهضة في السجال العام داخل منابر الإعلام التقليدية وفي وسائل التواصل الاجتماعي. ولا شك في أن أسباب هذه الأهمية لا تقبل الاختزال في مستوى عدائية أغلب النخب العلمانية لهذه الحركة السياسية "ذات المرجعية الإسلامية". فحركة النهضة تكتسب أهميتها أيضا بعمقها الشعبي واتساع قاعدتها الانتخابية؛ التي تظل هي الأكبر في كل عمليات سبر الآراء لنوايا التصويت في الانتخابات القادمة. كما تكتسب أهميتها من تعبيرها عن نموذج للإسلام السياسي، المتصالح بدرجة أو بأخرى مع الفلسفة السياسية للدولة- الأمة بمفهومها الحديث.
وإذا كانت أغلب النخب التونسية محكومة بـ"رُهاب الإسلام السياسي" الذي تعتبره وجودا غير سويّ في الحقل السياسي؛ لأنه لا يعترف بالتمييز الفلسفي والقانوني بين النّصابين السياسي والديني بالمعنى المنحدر إلينا من النموذج اليعقوبي الفرنسي، فإنّ أغلب النهضويين يعانون هم أيضا من "رُهاب العلمانية" بحكم "السمعة السيئة" لهذا المفهوم، وبحكم عدم تمثلهم لصراعهم مع الدولة زمن ابن علي أو قبله، على أساس أنه "صراع تأويلات" أو صراع "سياسي" يدار تحت المشترك الإسلامي. فهم قد عاشوا (بل مازالوا يستحضرون ذلك الصراع) على أساس أنه مواجهة بين تأويل إسلامي متأصل في هوية البلاد (وكأن الهوية جوهر متعال وثابت وغير متحرك)، وبين جملة من الانحرافات أو الإسقاطات الحداثوية التي فرضتها سلطة تغريبية بمنطق القوة، في إطار عملية التحديث الفوقي للمجتمع.
ولعلّ الفارق بين نوعي الرُّهاب الواردين أعلاه؛ هو أنّ الأوّل يشتغل عن طريق المقايسة والاستباق (بافتراض أنّ النهضة لن تختلف في شيء عن طالبان أو القاعدة أو شباب المجاهدين أو داعش، أو بافتراض أنها في أحسن حالاتها لن تستطيع إلا أن تكون عائقا أمام الحريات الفردية والجماعية)، بينما يشتغل الثاني عن طريق الذاكرة الحية للأجساد والأرواح التي اكتوت بنار"الحداثة"، خاصة في مظهرها الأمني-الاستخباراتي الذي جعل النهضويين لا يُفلتون من القمع الدولاني، حتى إن نجوا من القتل أو السجن (الحرمان من أبسط الحقوق المدنية، وسياسة التجويع وهشاشة الوضع المادي، والمراقبة الإدارية والتفنّن في نسف الكرامة الإنسانية، والاغتراب والشعور بالمطاردة و"قابلية القم" القادم من كل الجهات عموديا وأفقيا، أي من الآخر ومن السلطة).
الكثير من الصراعات والاصطفافات تفيض عن الأحداث المباشرة والدوافع "العقلانية" للفعل أو لردّ الفعل، لترتبط بسلطة الذاكرة والمخيال والتجارب الفردية والتضامنات الجماعية
وقد يكون من المفيد في هذا الموضع أن نؤكد على أنّ قراءة الواقع التونسي بعد الثورة ستظل سطحية واعتباطية؛ ما لم يكن المدخل فيها هو الإقرار بتعدّد العوامل التفسيرية. فالكثير من الصراعات والاصطفافات تفيض عن الأحداث المباشرة والدوافع "العقلانية" للفعل أو لردّ الفعل، لترتبط بسلطة الذاكرة والمخيال والتجارب الفردية والتضامنات الجماعية؛ التي يحكمها الحاجة إلى "الإشباع النفسي" أكثر مما تهدف إلى الإقناع العقلي وبناء المعنى تحاوريا.
مبدئيا، يمكننا الحديث عن وجود ثلاثة نماذج مثالية (بالمفهوم الفيبري) تنتمي إليها كل الانتقادات الموجّهة إلى النهضة، ولكنها بالطبع لا تحضر بالضرورة "كاملة" في أي خطاب، بل تتداخل وتتفاعل مع غلبة أحدها على الآخر تبعا لمواقع التلفظ وغاياتها النهائية. وهذه النماذج المثالية هي التالية:
1- النقد السياسي المرتبط بالأداء والخيارات السياسية: وهو نقد قد يصدر من المواطن غير المنتمي سياسيا، كما يمكن أن يصدر عن النخبة السياسية التي لا تعتبر النهضة عدوا وجوديا بل خصما سياسيا. ولذلك، فإن هذا النقد يتوجه إلى طبيعة الأداء السياسي للنهضة في ارتباطه باستحقاقات الثورة وبانتظارات المواطنين، وباستراتيجيات المنظومة القديمة لتكريس واقع التخلف والتبعية (ولعل أبرز تعبيرة سياسية لهذا النقد هو حزب التيار الديمقراطي). ورغم قيمة هذا النقد "في ذاته"، فإنه يواجه بصعوبات كبيرة؛ ليس أقلها "شخصنة" الصراع السياسي، واعتباره ضربا من خطاب الاستئصال "المخاتل". ولا شك في أن وضع النقد الذي يوجه للنقد في هذا المدار قد يجنبها خسارة جزء من قاعدتها الانتخابية، ولكنه في الآن نفسه يمنع النهضويين من الدخول في محاورة جادة (أو حتى في تحالف سياسي) مع قوة علمانية تحررت من ربقة الخطابات الهوياتية.
2- النقد الشرعي المرتبط بالمرجعية الفقهية التقليدية: وهو نقد يأتي أساسا من يمين النهضة المتدين أو من القاعدة الانتخابية المسجدية (أي من السلفية بأنواعها، ومن حزب التحرير)، ولكنه قد يأتي من بعض أجنحة النهضة التي تجد صعوبة في "التأصيل الشرعي" لبعض مواقف الحركة. وهؤلاء النهضويون إمّا أن يكونوا من المناضلين القدماء الذين عجزوا عن تمثّل المراجعات التي قامت بها حركتهم، وإمّا أن يكونوا من القواعد الشبابية ذات التكوين"السلفي". وهي قواعد يمكن نعتها بأنها "شبه سلفية" بحكم غلبة التأثير الوهابي عليها (عبر الفضائيات والمواقع التي تعاظم تأثيرها زمن ابن علي نتيجة سياسة "تجفيف منابع التدين" زمن المخلوع).
3-النقد الأيديولوجي المرتبط بالفهم اللائكي لعلاقة الدين بالسياسة: وهو نقد يأتي من التيارات السياسية، العلمانية الليبرالية والقومية واليسارية. ويتوجه النقد في هذا المستوى إلى توظيف الدين في السياسة أساسا. فانطلاقا من الانحصار في النموذج اللائكي الفرنسي، ترفض أغلب النخب الحداثية التونسية وجود حزب ذي مرجعية دينية، بل ترفض أي دور للدين في المجال العام وفي صياغة التشريعات. ولا شك في أن اللائكية الفرنسية (المرتبطة في مستوى النشأة بمعاداة الدين) لا يمكن أن تكون رافدا للتعددية الفكرية والسياسية، كما لا يمكن للاحتكام إليها إلا أن يزيد في أهمية الصراعات الهوياتية، وفي منسوب الاحتقان السياسي المانع لأية مراجعات جدية في مستوى تدبر العلاقة بين الديني والسياسي، خارج مرجع المعنى الفرنسي المأزوم حاليا في مجال تداوله الأصلي.
على حركة النهضة أن تعيد تدبر خيارها الاستراتيجي بالتموقع داخل الدولة لا ضدها، انطلاقا من النقد السياسي الذي يوجه لها على أساس أدائها في الترويكا وفي مرحلة التوافق
رغم تقلص أهمية "الإحراج" السلفي للنهضة، فإن الإحراج الفقهي يظل قائما حتى بين قواعدها، بل بين قياداتهم أنفسهم. فكل المراجعات الفكرية والتنظيمية التي قامت بها الحركة لا تعني وجود إجماع داخلها حول تلك المراجعات، بل كل ما تعنيه هو انتصار "مركز قوى" على مركز أخرى. أما بالنسبة إلى الإحراج العلماني، فقد أثبتت انتخابات 2014 وما أعقبها من "توافق"؛ أن العدو الأكبر لحركة النهضة ليس الاستئصال (فدعاة الاستئصال المؤدلجون ليسو إلا ملحقا وظيفيا أو طابورا خامسا في خدمة منظومة الحكم)، بل إن العدو الأكبر هو إدارة عملية التوافق بمنطق المنظومة ذاتها، دون محاولة تعديلها وتوجيهها خارج الخيارات الموروثة من عهد المخلوع.
ولذلك، فإن على حركة النهضة أن تعيد تدبر خيارها الاستراتيجي بالتموقع داخل الدولة لا ضدها، انطلاقا من النقد السياسي الذي يوجه لها على أساس أدائها في الترويكا وفي مرحلة التوافق. فهذا النقد لا يتوجه إلى خيار النهضة أن تتموقع في الدولة، فهذا حقها الذي لا تنازع فيه، بل يتوجه إلى كيفية إدارة ذلك الخيار سياسيا، وإلى كلفته الاجتماعية والاقتصادية. ولا شك في أن ذلك كله يحتاج من قيادات النهضة إلى مراجعات كبرى، بعيدة عن الحسابات الحزبية الضيقة ومتحررة من هواجس الاستئصال. كما لا شك أيضا في أن الإعراض عن هذه المراجعات سيعني بالضرورة إعادة إنتاج منظومة الحكم الحالية بعد الانتخابات القادمة، وتحوّل النهضة في المستوى الاستراتيجي من مجرد ملحق بمنظومة الحكم (بالتوافق التكتيكي والمؤقت معها) إلى جزء بنيوي وثابت فيها.