قضايا وآراء

العَولمة.. الصهيونية.. والنّازيات الجديدة

عادل بن عبد الله
"اليهود الشرقيين لم يعرفوا طوال تاريخهم أي مجزرة مماثلة في المجال العربي الإسلامي"- جيتي
"اليهود الشرقيين لم يعرفوا طوال تاريخهم أي مجزرة مماثلة في المجال العربي الإسلامي"- جيتي
رغم أن تعريفات العولمة ليست تعريفات اقتصادوية محضة، ورغم البعد التفصيلي لتلك التعريفات التي يمكن اختزالها في أن العولمة هي "الانتقال الحر للأموال والقوى العاملة والتٍّقانة وحتى الثقافات ضمن الإطار الرأسمالي"، فإننا لا نكاد نعثر -حسب مبلغ علمنا المتواضع- على تعريف يربط العولمة (أي الإمبريالية العسكرية والاقتصادية والثقافية الرأسمالية) بالصهيونية أو بالنازية. ولا شك عندنا في أن التعريفات -رغم طابعها التجريدي- تظل مرتبطة بالأطر الفكرية والموضوعية وبالرهانات الشخصية والجماعية لسياقات وضعها. ولا شك أيضا في أن "طوفان الأقصى" قد وفّر مناسبة للتفكير المختلف في العديد من المفاهيم الغربية "المُعولمة". فالطوفان ليس بداية "الاستبدال العظيم" للأشخاص وللسرديات فقط، بل هو أيضا دعوة لمراجعة النماذج التفسيرية (البراديغمات) السائدة لدى "التابع"/ موضوع الهيمنة الغربية في لحظتها المتصهينة.

ونحن لا نطرح على أنفسنا في هذا المقال إنتاج مفاهيم جديدة، ولا ندعي القدرة السحرية على "شطب" المقاربات السائدة لعلاقة العولمة بالصهيونية والنازية، ولكننا نزعم أننا سنحاول تقديم بعض الأفكار التي قد تصلح لمقاربة العلاقة بين تلك المفاهيم الإجرائية بصورة مختلفة.

في كتاب "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" المنشور سنة 1917، اعتبر فلاديمير لينين الإمبريالية مرحلة متطورة من مراحل الرأسمالية عندما "اكتسب تصدير رأسمال أهمية كبرى وابتدأ تقاسم العالم بين التروستات العالمية وانتهى تقاسم الأرض كلها بين كبريات البلدان الرأسمالية". وليس يعنينا في هذا المقال تفكيك الجوهر "الإمبريالي" للشيوعية السوفييتية رغم كل ادعاءاتها التحريرية والتقدمية، بل يعنينا فقط الإشارة إلى أن لينين قد أهمل -لأسباب تتعلق بطبيعة التحليل الماركسي ذاته- أهمية البعد الفكري أو "العقدي" في المشروع الاستعماري، بل أهمية المخيال الجمعي ما قبل الرأسمالي في صوغ العقائد الاستعمارية وجعلها أمرا "حسنا" في عين العقل وعين الرب على حد سواء.

بصرف النظر عن الجدل المعروف بين الإسلاميين وخصومهم في تحديد طبيعة الصراع ضد المشروع الصهيوني، فإنّنا نذهب إلى أن ذلك المشروع يعكس انتقال الإمبريالية إلى مرحلتها المتصهينة. ونحن نعني بـ"التصهين" هنا الإطار الفكري العام الذي يضبط سياسات القوى الاستعمارية الكبرى في المنطقة بدفع من السرديات الإنجيلية والتلمودية، وبضغط من اللوبيات المالية والإعلامية والثقافية اليهودية، وبتواطؤ جلي أو خفي من "الكيانات الوظيفية" التي تُسمّى مجازا دولا وطنية

وإذا كانت الماركسية تصادر على أن المحدد النهائي للصراع هو المحدد الاقتصادي، وتصادر أيضا على أن "الأيديولوجيا" (أو العقائد) ليست إلا أداة للتغطية على جوهر الصراع ورهاناته الدنيوية، فإن مقولاتها تفقد الكثير من قوتها التفسيرية عند استحضار المشروع الصهيوني في فلسطين.

بصرف النظر عن الجدل المعروف بين الإسلاميين وخصومهم في تحديد طبيعة الصراع ضد المشروع الصهيوني، فإنّنا نذهب إلى أن ذلك المشروع يعكس انتقال الإمبريالية إلى مرحلتها المتصهينة. ونحن نعني بـ"التصهين" هنا الإطار الفكري العام الذي يضبط سياسات القوى الاستعمارية الكبرى في المنطقة بدفع من السرديات الإنجيلية والتلمودية، وبضغط من اللوبيات المالية والإعلامية والثقافية اليهودية، وبتواطؤ جلي أو خفي من "الكيانات الوظيفية" التي تُسمّى مجازا دولا وطنية.

وإذا كنا لا نستطيع أن نفصل "مقبولية" المشروع الصهيوني في الغرب عن تطبيع الثقافة الإمبريالية مع الاستعمار "الإحلالي" (مثلما وقع في أمريكا وأستراليا وجنوب أفريقيا.. الخ)، وإذا كنا أيضا لا نستطيع فصل ذلك المشروع عن مصالح القوى الاستعمارية في المنطقة، فإننا لا نستطيع فصله عن مخرجات الحرب العالمية الثانية وسردية "الهولوكست". بل إننا لن نجانب الصواب إذا قلنا بأنّ إنشاء "إسرائيل" هو استمرار خفي لسياسات استبعاد اليهود من الغرب، لكن بطريقة "ناعمة" ومقبولة من لدن اليهود أنفسهم.

ربما يستغرب القارئ إذا ما اعتبرنا إنشاء إسرائيل هو امتداد لروح النازية. فالسرديات الغربية تدعي أنّ إنشاء "الوطن القومي لليهود" هو أساسا لحمايتهم ولتعويضهم عما عانوا منه في الغرب، خاصة من النازية وخيار "الحل النهائي". ورغم أنّ من المشروع أن نسأل لماذا لم تنشئ لهم القوى المنتصرة في الحرب وطنا قوميا في أوروبا -وفي ألمانيا تحديدا باعتبارها المتسبب الأعظم في "الهولوكست"- ورغم أن اليهود الشرقيين لم يعرفوا طوال تاريخهم أي مجزرة مماثلة في المجال العربي الإسلامي، فإن إنشاء "إسرائيل" كان يعني ضمنيا القبول بتحويل ضحية النازية (وضحية كل سرديات معاداة السامية في الغرب) إلى نازي جديد. فسردية "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" لم تكن تعني واقعيا إلا إبادة الشعب الفلسطيني بروح يهودية متصهينة.

إن الحديث عن "الحركات النازية الجديدة" هو حديث منقوص ومخادع عندما يستثني الصهيونية. فالصهيونية هي نازية متهوّدة. فرغم علاقة العداء المعروفة بين الصهيونية والنازية، فإن الصهيونية في جوهرها ليست إلا "تهويدا" للمشروع النازي. وهو تهويد يتحول فيها الضحية إلى جلاد، ولكنّ هذا الجلاد لا يمارس عنفه على سبب مأساته في الغرب، بل يمارسه على الموضوع المتاح في الشرق (أي الفلسطيني خاصة، والعربي والمسلم بصفة عامة).

الدعم المطلق الذي يقدمه الغرب لحرب الإبادة التي يمارسها الصهاينة ضد غزة (وسيمارسونها ضد كل فلسطين ولو بعد حين لتحويل "إسرائيل" إلى دولة لليهود) هو أعظم دليل على تهافت الأساس الأخلاقي للعولمة، ولا شك أيضا في أن تلك الإبادة المُمنهجة للفلسطينيين هي أكبر دليل على أن "الحل النهائي" النازي لم ينته بخسارة ألمانيا للحرب، بل هو باق مع السردية الصهيونية لكن تحت غطاء غربي عام، وبتواطؤ عربي رسمي مفضوح

وإذا كانت العولمة في جوهرها هي "عبادة العجل الذهبي" بأشكاله وتمظهراته الاستهلاكية/ الدهرية المعروفة، فإن ذلك العجل هو عجل توراتي وتلمودي بالضرورة. ولا يمكن للأطروحات الغربية والعربية "المُعلمنة" أن تُخفيَ هذا الجوهر، خاصة بعد طوفان الأقصى، كما لا يمكن للصراع "الخطابي" بين الصهيونية والنازية أن يخفيَ العلاقة الاشتقاقية التي تربط بينهما. فالنازية هي مشروع مسيحي تمت علمنته و"جرمنته" (ربطه بالعرق الجرماني الآري)، والصهيونية هي مشروع نازي غربي تم تهويده وتحويله إلى قاعدة متقدمة للإمبريالية في لحظتها التي تلت الحرب العالمية الثانية، أي مرحلتها المتصهينة.

ختاما، فإننا نعتبر استراتيجية الربط بين العولمة والصهيونية من جهة، وبين النازية والمشروع الإحلالي اليهودي من جهة ثانية جزءا من خيار المقاومة في المستوى الفكري. فالسرديات السياسية المهيمنة على أطر التفكير في الغرب ولدى "التابع" (أي العربي المسلم) قد حرصت على تأبيد التقابل بين الصهيونية والنازية، بل إنها قد حرصت على شرعنة المشروع الصهيوني باعتباره مقابلا "أخلاقيا" للمشروع النازي.

ولا شك في أن الدعم المطلق الذي يقدمه الغرب لحرب الإبادة التي يمارسها الصهاينة ضد غزة (وسيمارسونها ضد كل فلسطين ولو بعد حين لتحويل "إسرائيل" إلى دولة لليهود) هو أعظم دليل على تهافت الأساس الأخلاقي للعولمة، ولا شك أيضا في أن تلك الإبادة المُمنهجة للفلسطينيين هي أكبر دليل على أن "الحل النهائي" النازي لم ينته بخسارة ألمانيا للحرب، بل هو باق مع السردية الصهيونية لكن تحت غطاء غربي عام، وبتواطؤ عربي رسمي مفضوح. وهذا ما يستدعي من الكتابة "المقاومة" الدفع بهذه الترابطات الخفية إلى واجهة السجال العام، خاصة في الفضاء الغربي الذي ما زال أسير السردية الصهيونية ومشتقاتها المُعلمنة.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)