قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011، كانت أغلب النخب "الحداثية"
التونسية بمثابة رأس المال البشري الذي احتاجته البنية السلطوية لإدارة البلاد، وللإشراف على عمليات إنتاج "الرموز" و"القيم"، ومراقبة "السلوكيات" الجماعية حتى لا تتعارض مع "توجيهات" الزعيم بورقيبة، ولا مع "تعليمات" المخلوع من بعده. ورغم الاختلافات الأيديولوجية بين النخب الحداثية، فإنها تعترف جميعا بالأسطورة التوليدية الكبرى للدولة- الأمة: أسطورة "النمط المجتمعي التونسي".
إننا في محضر أسطورة مُعلمنة، ولكن علمانيتها لا تجعلها أقل مقاومة للمراجعة أو المساءلة، أو أكثر اشتغالا نقديا على ذاتها. فما يميز الأساطير الدينية أو المعلمنة، كما أكدت الباحثة ليندا زيرلي (Linda Zerilli) في سياق آخر؛ "ليس فجاجتها أو سذاجتها (قد تكون الأساطير مُعقدة ومركّبة للغاية)، وإنما قدرتها على التملص من أدوات التحقيق والتفنيد".
وسنحاول في هذا المقال أن نخاتل تلك القدرة على التملص من "أدوات النقد والتفنيد" التي تطبع أسطورة النمط المجتمعي التونسي، وذلك من خلال تقديم عناصر أولية للإجابة عن السؤال التالي: هل فعلا أسّست "الدولة- الأمة" بلحظتيها الدستورية والتجمعية لمفهوم فصل الدين عن الدولة، ذلك المفهوم الذي كثيرا ما يُوظف لرفض الاعتراف بالحركات الإسلامية، خاصة حركة النهضة؟
مهما تباينت مواقفنا من البورقيبية ومحصولها الواقعي بعيدا عن الشيطنة والأمثلة، من المؤكد أن تجربة "الزعيم" السياسية هي في جوهرها تجربة "كمالية" (نسبة إلى كمال أتاتورك). وإذا ما كان على أتاتورك (لبناء تركيا الحديثة والعلمانية) أن يُصفيَ حساباته مع العثمانيين، بخلافتهم وتاريخهم رموزهم ورؤيتهم للوجود ومقدساتهم ونمط شرعيتهم الدينية، كان على بورقيبة أيضا (لبناء الجمهورية التونسية الدائرة في فلك اللائكية واليعقوبية الفرنسيّتين) أن يُصفّيَ حساباته مع كل ما قد يعارض مشروعه الشخصي، بعد أن تحوّل بفضل الدعاية الإعلامية إلى مشروع "أمّة". وبصرف النظر عن مدى قابلية سياقات الاستقلال للنقاش المجتمعي العقلاني، فإن الثابت تاريخيا هو اعتماد "الزعيم" بورقيبة على "العنف" ببعديه المادي والرمزي؛ لفرض عملية التحديث وما تعنيه من خلخلة للأسس التي كان يقوم عليها الاجتماع التقليدي.
واقعيا، كان اعتماد اللائكية الفرنسية يعني تحرّك الدولة في اتجاه الهيمنة على "الشؤون الدينية"، عبر احتكار عملية إنتاج المعنى الديني "القويم" في العقيدة والسلوك، وعبر ضرب أية مواقع منافسة (سواء أكانت مواقع تقليدية كمؤسسة الزيتونة، أم مواقع احتجاجية عبّرت عنها حركات الإسلام السياسي فيما بعد). ولم تكن اللائكية في أذهان النخب الحداثية تعني الفصل بين الدين والسياسة، بما هما مجالان مختلفان للحقيقة، بل تعني هيمنة الدولة على الدين وتوظيفه لخدمة "الحقيقة" السلطوية دون غيرها. فالدولة "الحداثية" في الحقيقة لم تكن يوما ضد توظيف الدين لأغراض سياسية، بل كانت فقط ضد التنازل عن هذا الامتياز السلطوي؛ مهما كان الخصم الذي ينازعها احتكار سوق الخيرات الدينية وما يرتبط به من الخيرات المادية.
ولعل ما حدد مسارات التجربة السلطوية التونسية وضبط سقف تسامحها مع حركات الإسلام السياسي؛ هو انحصارها في نموذج علماني صدامي هو النموذج اللائكي الفرنسي، وهو نموذج يحمل في بنيته التكوينية ذاتها عدائية أصلية للدين. فعلى خلاف
العلمانية الأنجلوساكسونية، وما تعرفه من تسامح ديني ومن توظيف مشروع ومعترف به للدين في السياسة، اتسمت علاقة اللائكية الفرنسية بالدين منذ بداياتها بصراع وجودي مفتوح يقوم على منطق النفي المتبادل، وهو صراع دموي عبّرت عنه تلك المقولة الشهيرة:" اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسّيس". ولأن السلطة التونسية، لم تجد أمامها قساوسة، فقد كان عليهم أن يتم خلقهم. ولذلك كان الشيخ الزيتوني (في البداية) هو ذلك القس الذي لن تحتاج الدولة إلى أمعاء الإقطاعي لشنقه، فقد كان يكفي لذلك توحيد النظام التعليمي، وتهميش النخب التقليدية وتدجينها أو إخراجها من مراكز القرار والتأثير. وفيما بعد أصبح "الإخواني" (النهضوي) هو ذلك القسّيس الذي يُهدد النمط المجتمعي التونسي ومكتسباته، أو لنقل يُهدد قيم الجمهورية الفرنسية ومصالحها باعتبارها السردية الأصلية لأساطير النمط المجتمعي التونسي، فكان من وبال أمره مع "المُوقّعين" عن العقل المطلق ما كان.
ولعل من أهم الحجج التي تبرر بها النخب اللائكية موقفها العدائي تجاه حركة النهضة وغيرها من حركات "الإسلام السياسي"؛ هي الحجة التالية: إنّ الإسلام السياسي بمختلف تشكيلاته، الإخوانية والسلفية والتحريرية، هو تهديد وجودي للفلسفة السياسية التي قامت عليها الدولة- الأمة، وذلك لرفضه الفصل بين الدين والسياسة، وإذا ما انتصرت هذه الحركات، فمن المؤكد أنها ستنسف "النمط المجتمعي التونسي" ومكتسباته في مستوى الحريات والحقوق الفردية والجماعية، خاصة ما يتعلق منها بحقوق المرأة.
لا شك في أن ما يؤسس هذا القول هو افتراض تحقق "لائكية" حقيقية في تونس. إننا في محضر قول مرسل يصادر على المطلوب، المطلوب هو البرهنة على تحقق الفصل بين الدين والسياسة خلال حكم بورقيبة وخليفته المخلوع ابن علي، وليس افتراض وجود ذلك الفصل بلا بيّنة. وقد لا يكون احتكار بورقيبة صفة "المجاهد الأكبر"، أو ما يلاحظ في عهده من استمرار لثقافة الشيخ والمريد، كافيين للطعن في ادعائه الفصل بين السياسة والدين، كما قد لا يكون استعمال المخلوع صفة "حامي الحمى والدين" وحرصه على الإشراف على المناسبات الدينية؛ كافيين للطعن في لائكيّة نظامه، ولكن من المؤكد أن بورقيبة وابن علي لم يعملا على الفصل بين الدين والسياسة؛ بقدر ما وظفا الدين وحاولا احتكاره لخدمة أهدافهما السياسية. ومن المؤكد أيضا أن الدولة- الأمة قد تحوّلت في عهديهما إلى مشروع جهوي- زبوني يدار بمفردات مخاتلة، كالوطنية والتقدمية والحداثة وغيرها، بل إن الدولة قد تحولت على عهديهما إلى ما يشبه "الديانة الوضعية" التي لا تقبل النقد والمساءلة، رغم كل ادعاءاتها الحداثية والتقدمية.
ختاما، فإن إعلان السلطة في لحظتيها الدستورية والتجمعية الحرب على "الإسلام السياسي" لم يكن في الحقيقة دفاعا عن اللائكية ولا عن المجتمع، بقدر ما كان دفاعا عن بنية تسلطية انقلبت على اللائكية ذاتها، حتى تستطيع فرض واقع الاستبداد اللازم لإدارة التبعية والتخلف وإعادة انتاجهما. ولذلك، فإن ما يثار من مخاوف من الإسلام السياسي الذي سيهدد "واقع" الفصل بين السياسة والدين؛ هو حديث لا قيمة له عند استقراء الواقع السلطوي في تونس منذ بناء ما يُسمّى بالدولة الوطنية. فالسلطة لم تعرف يوما معنى الفصل بين الدين والسياسة ولا معنى الفصل بين "الأحوال الشخصية" والقانون الوضعي، وكان منتهى ما عرفته هذه السلطة هو احتكار "الشؤون الدينية"، كما فعلت مع الشؤون الدنيوية في مختلف القطاعات. وهو ما يفرض علينا أن ننزاح قليلا عن طرح النخب اللائكية التونسية لنطرح هذا السؤال الأخير: إذا ما كان الفصل بين الدين والسياسة في تونس مجرد أسطورة من أساطير السلطة الحاكمة ونخبها التابعة، أليس من مصلحة تونس بعد الثورة، وما فرضه الواقع من ضرورة
التعايش بين
الإسلاميين والعلمانيين، أن تتجاوز اللائكية الفرنسية المأزومة حتى في سياقها التداولي الأصلي، وأن تخلق فلسفتها السياسية الخاصة القادرة على بناء الجمهورية الثانية بعيدا عن حدّي التكفير والاستئصال؟