سُئل كهل، أدرد، حطّم الزمان أسنانه، من أفراد قبيلة تعيش في الأمازون عن عمره، فقال بعد تفكير: ثلاثة أيام.. وكان ذلك في فيلم في وثائقية الجزيرة، ولم يكن يقصد أن يقول حكمة ولا أن يقول نكتة، فالقبيلة تجهل معنى
الزمن، وتعيش بلا ساعة، وخارج التاريخ، والتاريخ هو سجل الزمن.
كان ذلك يمكن أن يكون تعريفاً للسعادة؛ السعادة هي الطفولة الدائمة، ويجادل الذين كفروا بالباطل فيتساءلون عن الزمن الطافي فوق الزمن: أليس في الجنة سوى النكاح؟ أين الطبقة العاملة؟
يجمع كثيرون أنّ الوقت ضاق كثيراً، وجاء في الحديث: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ": حتى إن بيننا من يجد زمن حذف بريد الكتروني الذي لا يقتضي أكثر من ثانية هدراً للوقت. ونال أحمد زويل جائزة نوبل على اكتشاف زمن الفيمتو ثانية. وكنا نتواعد بأوقات الصلاة، والتي تحددها الشمس نهاراً والقمر ليلاً؛ الظهر والعصر والمغرب في الزمن الجميل، وكان الزمن الجميل أجمل. ولم تعد ثمة قصص حب، فسرعان ما تفسد ببلوك الطلاق.
حاولت أن أقنع صديقاً ألمانياً مهندساً بأنّ اليوم لم يعد كما كان أربعاً وعشرين ساعة، أو أنّ الساعة صارت ربع ساعة، فلم يقتنع، واجتهدت في الإقناع، بأن الزمن ضاق مرتين؛ مرة معنوياً ومرة حسيّاً. والسرعة هي قرين الزمن، وتجنبت وصف نزع البركة عن الزمن فهو لا يقنع محكمة أوربية. وهناك نظريات علمية تقول إن الأرض قد انزاحت عن محورها، ونقصت من أطرافها.. ووثقتُ قولي بروابط من يوتيوب، بحساب جيوب زاوية شعاع الشمس، وظلالها و"تظلالها". القول الشهير من أقوال الصوفية: "الوقت سيف، فإن لم تقطعه قطعك"، والذي كتبنا عنه مواضيع إنشاء في المدرسة، تغيّر مع تغيّر الأسلحة فصار الوقت كالقنبلة، والقنابل أنواع منها: الكيماوي والهيدروجيني والنووي، وكلها شاملة، تقتل كل ما يدبُّ على الأرض، القتل كان شاقاً ويتطلب جهداً عضلياً، والسيف المعاصر يقتل في لمسة زر ليس لها عروة، ما كان يُقتل في شهور وسنين عددا، وقلت للصديق الألماني: انظر يا صديقي نحن نمضي بسرعة إلى أهدافنا بالسيارة، لكننا نبحث ساعات عن مبرك لها، في وقت أطول من زمن الوصول فكأننا مضينا حقبا. قبل سنوات كانت غرفتك واسعة، وهي الآن مكتظة بالأثاث، الخزن والطاولات والكراسي وصندوق التلفزيون (وقد نحف بالريجيم العلمي فصار لوحاً) حتى ضاقت بما رحبت، وقد قضيت وقتاً في شرائها ونقلها، وكل هذا وقت مهدور، ولم أنجح في إقناعه، وكان عليّ أن أقنعه بأن المكان زمان ثابت، وذكرني بعجوز الأمازون، لعله سعيد مثله. السعداء لا يحسون بالزمن كما يحس به التعساء.
نشطت مواقع الإنترنت التي تحاول اللحاق بالزمن، وتوفير الخدمة السريعة. يقرُّ فيزيائيون بأنّ الزمان مرتبط بالمكان فهما توأمان، ويقول الفيزيائيون إن المكان زمان ثابت والزمان مكان متحرك فهما شقيقان، وقد كثر أصدقاؤنا حتى غدوا بالآلاف على صفحات التواصل، لا نعرف أسماءهم، وهي صداقات بلا ذكريات، وجيران بالآلاف على مواقع التواصل لا نعرفهم سوى من اللايكات والنكزات، وكليهما لا يروي ظمأ ولا يقطع أرضاً، والصحف كثيرة وكانت الصحف تعدُّ على الأصابع، ويوتيوب وانستغرام وتوتير، وكلها وحوش تنهش من لحم الزمن ومن عظمه.
الساعة التي اشتريتها في صباي، وهي ساعة عادية، كانت ثمينة جداً.. والساعات في هذه الأيام يمكن شراؤها بثمن سندويش، هذا يعني أن الزمن الذي نصفه دائماً بالثمين صار رخيصاً. وفي أيام الزمن الجميل، كان السباق له قواعد، فسقطت القواعد، كنا نقرأ روايات طويلة بآلاف الصفحات فصرنا نضيق ببوست أكثر من سطرين؛ لأن أمامنا مئات المناشير التي تستحق القراءة، وتقول علوم التذكر والذاكرة إن ما يأتي سريعاً يمضي سريعاً فلا يعلق "بالهارد وير".
الطغاة كانوا يحتلون الأمكنة، وقد احتلوا الأزمنة من غير جيوش، فالأزمنة أولى بالاحتلال، وصعوبة تحريرها أكبر من صعوبة تحرير الأمكنة، وأنت لا تلج موقعاً إلا بعد أن تنتظر إعلاناً ستراه مكرهاً، دافعاً ضريبة من وقتك، والطغاة لهم سجون، والسجون هي عقوبات لحرق أزمان خصومهم وأعدائهم، وقد اخترعت دولة الاحتلال وتبعها حكامنا العرب الاعتقال الإداري، فهو يدور مع عقارب الساعة، فيحبسون ويحرقون ساعاتهم، فيهاجرون إلى الذكريات البعيدة رغبة في التحرر الخيالي.
قارن إعلامي مشهور بين عيش الملوك وعيش الإنسان الحالي، فوجد أن إنسان القرن الحادي والعشرين، أترف عيشاً، وأهنأ حياةً من الملوك السابقين، فهو يستطيع السفر بالطائرة، تحرسه الدولة، ويأكل ما لم يكن يأكله هارون الرشيد ولا لويس الرابع عشر، والمقارنة طريفة لكنها غير صحيحة؛ لأن الأمور نسبية، وقد جعل أصحاب السلطة الزمنية، والمهيمنون عليها الذين جعلوا أينشتاين أذكى عقل بشري، ورفعوا من شأن النظرية النسبية عن الزمن، وهي مذكورة في القرآن في أكثر من آية. وقد عاش النبي عليه الصلاة السلام زمن النسبية بالإسراء والمعراج بلحمه وعظمه، وقسم له ربّه القمر مثل التفاحة شطرين، والقمر هو عدة الزمن، حتى إن الدقيقة اللاتينية (Minute) اشتقت من منى، وكانت العرب تعبد الآلهة مناة، وهي القمر.
تقول الأرقام إن معدل الأعمار في البلدان الأوربية صار طويلاً، وناف على الثمانين في بعض أقطارها، لكني أزعم أن شاعرا مثل طرفة بن العبد عاش أطول من آلاف الهالكين في دور العجزة، حتى إنهم ابتدعوا القتل الرحيم للخلاص من أسر الزمن المزيف.
وفي العظات من الزمن أنه جاء ملك الموت إلى نوح عليه السلام، فقال: يا أطول النبيين عمراً! كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: "كرجل دخل بيتاً له بابان، فقام في وسط البيت هنيهة (القليل من الزمان) ثم خرج من الباب الآخر".
من الغريب أن تعبير "وقت الفراغ" نشأ حديثاً مع ازدحام الحياة، وانخفاض منسوب الحكمة، وأنشأ الطغاة المعاصرون مفهوم "إلى الأبد".. والمخابرات ليس لديها أوقات فراغ، فعناصر المخابرات يتتجسسون حتى على أنسبائهم في أوقات الفراغ. وكان الرئيس السوري الذي يؤمن بالتناسخ (كما نرجح) هو الذي أشاعه أو هو أكثر الذين جاهروا به، فقد نثر الشعارات به في كل الشوارع والمؤسسات الحكومية، فالسيطرة على المكان سيطرة على الزمان، وكان نتيجة ذلك أن سوريا دُمرت.
وقرأت متأخراً أن الصلاة هي زكاة الوقت، والزكاة النماء. ومن جميل ما قرأت أنّ خط الوقت الذي يمر بمكة هو الأولى بمعيار الزمن العالمي لا خط غرينتش، فالغربيون هم الذين سادوا، وفرضوا ساعتهم. وكان هارون الرشيد قد أهدى ساعة إلى شارلمان فهرب منها لأن بها جناً وعفاريت، ثم خرجت لنا الجن والعفاريت من كل شيء: فيسبوك وتويتر والموبايل، والطغاة لم يعودوا يكتفون بسرقة المكان والزمان حاضراً، فالحاضر لا يسرق إلا بسرقة الماضي، ويعني سرقة للمستقبل أيضاً.
بما أن المكان زمان ثابت، فالعالم لم يعد قرية صغيرة فحسب، إنه بوتقة، قمقم، ونحن فيه أسرى.