تصدير: "المشكلة أننا نملك معبداً يُقرر الحقيقة بينما هو لصّها وناهبها وسجّانها" - عبد الرزاق الجبران
من المعلوم عن المطّلع على مشروع الكاتب العراقي عبد الرزاق الجبران لتأسيس "الفقه الوجودي"؛ أنه يكاد يحصر كلمة "المعبد" في المؤسسة الدينية. وهو في تقديرنا لا يقول إلا نصف الحقيقة، أو لا ينتقد إلا نصف المعابد. فالمؤسسات الدينية، على أهميتها في بعض المجتمعات العربية، تظل خادما أمينا وطيعا للسلطة السياسية، أو لمعبد "فرعون"، وإن تعلمنت مفرداته ومقدساته. ولكنّ فرعون زماننا لا يقدر على قول "أنا ربكم الأعلى"، وإن كان له الحق في أن يقول عندما يتسيّد على كل منظومة حكم ملكي أو جُملكي أو عسكري صريح: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
ولذلك، فإن مفهوم "الحقيقة" الذي تتداولها النخب التونسية، بإسلامييها وعلمانييها، لم يخرج في الأغلب الأعم عن صيغة المفرد وعن آليات الإكراه والإدماج القسري. فـ"الحقيقة" في الجهة العلماني؛ تتعارض (بعيدا عن الادعاءات الذاتية والتأنقات الخطابية) مع الدرس الهابرماسي (نسبة إلى يورغن هابرماس) الذي يتحدث عن العقل التواصلي والبناء التفاوضي للحقيقة الجمعية، وعن الحقيقة التي تعقب الحوار ولا تتقدم عليه، وعن دور القيم الدينية في تشكيل الفضاء العام "المُعلمن". و"الحقيقة العلمانية" عند نخبنا هي أيضا في تعارض دائم مع الدرس الفوكوي (نسبة إلى ميشال فوكو)؛ الذي يُعلمنا أن الحقيقة الاجتماعية هي بناء تاريخي متحرك يخضع لعلاقات القوة واستراتيجيات الهيمنة/ التفاوض، وليست معطى قبليا أو بداهة عقلية.
أما في الجهة الإسلامية، فإن الاعتراف بتعدد "الحقائق" أو "الاختلاف الأفقي" الخالي من الحكم القيمي، وتجاوز مفهوم التسامح إلى مفهوم الاحترام، وضرورة مراجعة المدونات الفقهية أو تعديلها؛ على ضوء المنظومة الكونية لحقوق الإنسان والفلسفة السياسية الحديثة المؤسسة للدولة- الأمة، فإنها مهمات تظل مؤجلة، بل داخلة في ما يستحيل التفكير فيه، على الأقل بين قواعد الأحزاب الإسلامية. وهو أمر يعود لأسباب تتصل بهيمنة "أحادية الحق" الذي يجد منبعه الأساسي في مفهوم "التوحيد"، وما تفرع عنه من بناءات عقدية وفقهية ومخيالية قدّسها المسلمون عبر الزمن، وأعاد الإسلاميون تشغيلها ضمن مشاريعهم السياسية الاحتجاجية.
ورغم تعدد محاور المواجهة بين الإسلاميين والعلمانيين، فإن قضية المرأة كانت قد مثلت دائما محور المفاصلة الأساسي بينهما، حتى قبل قيام ما يُسمى بالدولة الوطنية أو الدولة- الأمة. فمنذ البدايات الأولى لمشروع "التحديث"، حاولت السلطة السياسية في تونس أن تجعل من "تحرير المرأة" جوادها الرابح في إعادة هندسة المجتمع، وفي شرعنة منظومة الحكم والدفاع عن خياراتها الكبرى، بل في تهميش السجال العام حول تلك الخيارات التي كرست للدولة الجهوية- الزبونية التابعة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا لعاصمة الأنوار باريس.
حاولت السلطة السياسية في تونس أن تجعل من "تحرير المرأة" جوادها الرابح في إعادة هندسة المجتمع، وفي شرعنة منظومة الحكم والدفاع عن خياراتها الكبرى
ولعل من أبرز نجاحات نظام المخلوع، هو الوريث الشرعي لخيارات مؤسس الدولة و التلميذ النجيب لمنطقه "الجهوي" المتخفي وراء استعارات وطنية جامعة، أنه قد وظّف قضية المرأة وما يتهدد حرياتها ومكاسبها من مخاطر على أيدي "الظلاميين" و"الرجعيين" (أي الإسلاميين) في تجميع القوى "الديمقراطية" وكسب دعمها الصريح أو الضمني في حربه المفتوحة ضد حركة النهضة، بل ضد الكثير من مظاهر التدين "العفوي" وغير المُسيّس في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
وفي إطار ما سُمّي بسياسة تجفيف منابع التطرف التي تحولت سريعا إلى تجفيف منابع التدين، أوكلت مهمة التنظير وتحديد الاستراتيجيات إلى لجان التفكير التجمعية بقيادة الكثير من رموز اليسار الثقافي/ الاستئصالي، بينما أوكلت المواجهة الميدانية وتفعيل تلك الاستراتيجيات إلى المؤسسة الأمنية؛ التي كان على رأسها هي الأخرى العديد من اليساريين، خاصة المنتمين منهم إلى العائلة الوطنية الديمقراطية المسمّاة اختصارا بـ"الوطد".
في تلك الحرب المفتوحة على مظاهر التدين، كان
الحجاب سببا في الطرد من الوظيفة العمومية أو في الحرمان منها باستعمال الفرز الأمني، وكانت المواظبة على صلاة الصبح شبهة قد تكلف صاحبها السجن أو على الأقل المتابعة الأمنية، بل إن تحية الإسلام ذاتها أصبحت شبهة يتحاشاها الناس في الإدارات العمومية وفي مراكز الأمن، حتى لا يُتّهموا بـ"التخونج" (أي الانتماء لحركة النهضة الإخوانية). وقد أصبحت الحرب على مظاهر التدين أقرب إلى "المسخرة" عندما حاربت السلطة السياسية، بدعم من "النساء الديمقراطيات"، الدمية المحجبة "فلّة" ومنعوها من الأسواق خوفا على "النمط المجتمعي التونسي"، واستباقا للتأثيرات السلبية للباس "الطائفي" (أي الحجاب)على الناشئة.
كان لدخول حركة النهضة فاعلا قانونيا ومؤثؤا في الحقل السياسي تأثير كبير في تخفيف حدة الاستهداف الممنهج للحجاب، ولذلك احتاجت النخب "الحداثية" كانت تحتاج إلى رمز ديني آخر لتعميق الانقسام الاجتماعي على أساس هوياتي
وبعد الثورة التونسية، كان لدخول حركة النهضة فاعلا قانونيا ومؤثؤا في الحقل السياسي تأثير كبير في تخفيف حدة الاستهداف الممنهج للحجاب، ولذلك احتاجت النخب "الحداثية" كانت تحتاج إلى رمز ديني آخر لتعميق الانقسام الاجتماعي على أساس هوياتي. فالصراعات الهوياتية ستحرف الرأي العام عن الإشكاليات الحقيقية التي أنتجتها سياسات الدولة في عملية التحديث المأزومة (التفاوتات الجهوية والطبقية، والتبادل اللامتكافئ مع الغرب، خاصة فرنسا، وهيمنة لوبيات عائلية وجهوية على أغلب الثروات، وشبهة فساد أغلب العقود المتعلقة بالطاقة، وعودة أركان نظام المخلوع إلى واجهة السلطة، وعدم استرداد البنوك للقروض الممنوحة لرجال الأعمال، والاختراق المخابراتي وشبهة تورط بعض رجال الدولة والإعلاميين في العمليات الإرهابية، والوضعية المتردية للمرأة في المصانع الخاصة، واستمرار منطق الدولة الرّيعية وهيمنة الشبكات الزبونية على مراكز القرار، واعتماد منطق الولاء قبل الكفاءة في التعيينات، واستمرار السياسات الكبرى للمخلوع، وغياب مقومات السيادة.. الخ.. الخ).
وبحكم التهديدات الأمنية الحقيقية التي مثلتها الحركات الإرهابية الوهابية، كان "النقاب" هو البدل الأمثل للمبدل منه الأصلي، أي الحجاب. وقد جاء
المنشور الصادر عن رئاسة الوزراء منذ أيام بمنع "كل شخص غير مكشوف الوجه من دخول مقرات الإدارات والمؤسسات والمنشآت العمومية"؛ ليؤكد أن العقل السياسي الأمني الذي حكم في عهد المخلوع ما زال هو المهيمن على تحديد استراتيجيات
مواجهة الإرهاب، وهندسة الفضاء العام بالمنطق اللادستوري نفسه.
وبصرف النظر عن الرهانات الانتخابية لهذا القرار، فإن صياغة المنشور تفضح التوازنات الهشة التي تحكم السلطة "التوافقية"، وتكشف عن ضعفها في تحمل مسؤولية قراراتها أمام الخليجيين (خاصة السعودية). فالمنشور لم يجرؤ على استهداف "النقاب" بالاسم، كما أنه لم تكن له الشجاعة لمنع ارتداء النقاب بصورة مطلقة. وهو ما يعني تخفيف الضغط على حركة النهضة، وما قد تواجهه من انتقاد عند قواعدها "شبه السلفية"، كما يعني أيضا الخوف من الدخول في مواجهة مفتوحة مع مشائخ الوهابية السعوديين وحليفيهما في محور الثورة المضادة (مصر والإمارات).
وبصرف النظر عن الرهانات الانتخابية لهذا القرار، فإن صياغة المنشور تفضح التوازنات الهشة التي تحكم السلطة "التوافقية"، وتكشف عن ضعفها في تحمل مسؤولية قراراتها
قد يبدو من المبالغة اتهام العقل السياسي- الأمني الذي صاغ المنشور الأخير باستهداف مظاهر التدين، بل استهداف الدين ذاته. ولكنّ المسألة أكبر من قضية النقاب، فالحجاب نفسه ما زال "هوية مرئية" مريبة عند النخب العلمانية، وقد لا نحتاج هنا إلى التذكير بتاريخ تعاطي هذه النخب مع الحجاب، فهو ما زال مستهدفا حتى في مسابح بعض النُزل التي ترفض ارتداء البوركيني. ولذلك، فإن القضية ليست قضية نقاب أو حجاب أو لحية أو قميص، أو حتى قضية تهديدات إرهابية حقيقية أو متخيلة، إننا أمام قضية "عقل حداثي" لا يترك فرصة للارتكاس عن ادعاءاته النظرية في قبول الاختلاف والغيرية والاحترام والتعايش.. الخ.. الخ.
فالحجاب أو النقاب هما "الموضوع المتاح"، وليسا "الموضوع المستهدف". إن المستهدف الأصلي هو الإسلام ذاته؛ باعتاره عند النخب "الحداثية" مجرد ترسّب لا وظيفي ما قبل حداثي، ترسّب خرافي ومتعارض ماهويا مع الفلسفة السياسية للدولة الحديثة، وهو ما يعني استحالة توظيفه في بناء المشترك الوطني كما يتمثله أغلب "الحداثيين" التونسيين.
ختاما، فإننا لا نجد لتوصيف المقاربة "الحداثوية" واستراتيجات تعاملها مع مظاهر التدين، ومع المقدس الجمعي بصفة عامة، إلا مفهوم "العنصرية التفاضلية" الذي نحته المثقف اليساري إيتيان باليبار .(Etienne Balibar) وهو مفهوم يشير إلى شكل جديد من العنصرية؛ عنصرية تلعب الثقافة فيها دور البيولوجيا في "العنصرية الكلاسيكية".
ولا شك في أنّ كل الخطابات ّالحداثوية" المهيمة على المجال العام هي خطابات "عنصرية" بهذا المعنى، فهي تنظر إلى "السمات الثقافية" المختلفة (كالحجاب والنقاب والقميص عند المتدين، واللهجة الريفية أو نوعية اللباس أو عدم التمكن من الفرنسية عند "الثوري" الرافض للتحالف مع المنظومة القديمة) باعتبارها علامات دونية أنطولوجية (لا علامات دونية ثقافية فقط)، وهو ما يكفي عند نخبتنا "الحداثية" لاستهداف أصحابها ومحاربتهم قبل الثورة وبعدها. وفي المدى المنظور، يبدو من المستبعد أن تقوم النخب الحداثية التونسية بأية مراجعات جذرية، ويبدو من المستبعد أيضا أن تمارس النقد الذاتي أو تتخذ مسافة نقدية من النموذج اللائكي الفرنسي. وهو ما يعني بالضرورة استمرار الصراعات الهوياتية القاتلة، والتالي استمرار النواة الصلبة لمنظومة الحكم السابقة في توظيف الأيديولوجيات المتنازعة، لحرف الأنظار عن القضايا الحقيقية التي تكاد تُحوّل تونس إلى "دولة فاشلة".