ثمة عدد من الجرائم التي
يرتكبها الآباء في حق أبنائهم بشكل يومي، وهم شبه مُغيَّبين؛ بل ويظُن بعضهم أنه
بجرائمه قد أحسن صُنعا. وربما كانت أكبر هذه الجرائم هي الغياب عن حيوات الأبناء
تربويّا في فترات الاحتياج الشديد، فهم حتى إن كانوا حاضرين بأجسادهم؛ فإن الآباء
قد غابوا كقدوة تهدي وأستاذ يوجِّه، محاولين تعويض ذلك بكثرة "الأشياء"الماديَّة
و"الهدايا" العينيَّة.. وهم بذلك لا يشوِّهون شخصيات أطفالهم بهذا
الافتقار للقدوة فحسب؛ بل يغرسون فيهم سُلما قيميّا يجعل هذه "الأشياء" المادية
أولى (في روع الأبناء) من العلاقة الإنسانيَّة السويَّة بالأسرة، والتي يُفترض أن
يتلقى الطفل من خلالها منظومة القيم الإنسانية والاجتماعية الأساسية التي يتسلَّح
بها في مواجهة حياته فيما بعد.
والمآل الطبيعي لهذا
الإفساد هو أن يلهث الأبناء بعد حين خلف نفس "الأشياء" المادية (مثلهم
مثل آبائهم من قبل) في السن التي سيحتاج لهم الآباء فيها ليردوا لهم "الدين"...
وهذا أقل عقوق قد يعانيه الآباء بسبب جريمتهم!
جريمة أخرى، يرتكبها الآباء
في حق أبناءهم؛ لا تقِلُّ فداحة عن سابقتها إذ تسير على خطاها في تدمير شخصيَّة
الطفل، ويكون سببها غالبا هو انعدام قُدرة الآباء على التربيَّة، ومن ثم؛ رغبتهم
العبثيَّة في أن تؤدي جهة أو مؤسسة ما هذه المهمة الثقيلة عنهم (المدرسة، الدولة،
النادي، الشارع، التلفاز، الإنترنت.. إلخ).
هذه الجريمة تتجسَّد في
تعويد الآباء أبنائهم الخضوع للهرميَّة الاجتماعيَّة، بدعوى تأديبهم وتهذيبهم؛ قبل
تعليمهم معنى مراقبة الله.. أن تَغرِس في الطفل الطاعة والخضوع كُرها للبشر، قبل
أن تُحبِّب إليه الطاعة والخضوع الإراديين لله. ولهذه الجريمة سياقان: أولهما حين
تغيَّب مراقبة الله وطاعته عن قمة سلم أولويات الأهل؛ فهم لا يكترثون لها، أو
ينزلونها منزلة تالية للتماهي مع الواقع الاجتماعي، وثانيهما ترتكبه الأسر
المتنطِّعة في الدين، إذ تغرس في
الأطفال أن طاعة الآباء بإطلاق هي طاعة لله. والنتيجة
واحدة في الحالين؛ إذ ينشأ الطفل وهو لا يستطيع التفرقة بين طاعة الله ومعصيته،
ولا بين طاعة الأبوين (والمجتمع) ما أمرا بطاعة الله، ومخالفتهما فيما دون ذلك.
هذه التنشئة تُخرج طفلا
مشوَّه النفس عديم الشخصيَّة، بغض النظر عن خلفية أسرته؛ سواء كانت لا مبالية
بالدين أو مُتنطعة فيه. وليس ثمة فارق كبير بين
الأسرة التي لا تبالي أن تعلم
طفلها القرآن، وبين تلك التي تحرص على تلقينه إياه بغير ربطه بالحياة اليومية. ففي
الحالين تتصرَّف الأسرة بما يُناقض تعاليم القرآن، عرفت ذلك أم لم تعرفه، أرادته
أم لم تُرِدهُ. بل إن الاهتمام الظاهري بتلقين الطفل آيات، لا يستطيع الربط البسيط
بينها وبين الحياة اليومية؛ تجعله يَنفُر من الهدي الإلهي، ليصير القرآن في روعه
مُجرَّد كتابٍ "نظري" لا علاقة له بالواقع(*). فقد نشأ على أن الهرمية
الاجتماعية هي التي تفرض القيم والقوانين والأعراف والتقاليد، وهي نفسها مصدر
إلزامها؛ ومن ثم تحل هذه الهرمية محل الوحي/ الدين في روع الغالبيَّة العظمى. إنها
عبادة للمجتمع من دون الله، ولو كانت تتم في أحيانٍ كثيرة باسم الله!
في
هذه المباءة الخبيثة، والدائرة الماديَّة العبثيَّة؛ يُشغَل الآباء المساكين عن
تربية الأبناء المناكيد بالكد كالأنعام طوال الأسبوع، ليوفِّروا لأطفالهم مساكن
مريحة وعطل نهاية أسبوع في منتجعات فخمة، وجولات تسوق لا نهائية في المراكز
التجاريَّة الشهيرة، جاهلين أن تربية الأطفال تتجاوز هذه البهيمية الاستهلاكية... إن
هؤلاء الآباء البؤساء لم يجدوا أصلا من يُربيهم؛ لم يجدوا من يعلمهم أن واجبهم هو
رياضة أنفسهم وأطفالهم على ضبط وتهذيب غرائزهم لتتحقَّق إنسانيتهم وتزدهر، لا
العمل بكل وسيلة لتلبية هذه الغرائز حتى ينشأ الواحد منهم كالحيوان؛ لا همّ له إلا
تلبية غرائزه بكل وسيلة، ولو على حساب المجتمع.
وإذا
كان النظام العام (المعبِّر عن النظام الرأسمالي المنحط) يجعل مهمَّة الآباء شديدة
العُسر، بل يجعل الآباء أنفسهم بعض ضحايا هذه المنظومة؛ إذ يتلقَّف هذه الغرائز
الحيوانيَّة ويذكيها بدعايته وغوايته كل حين، فإن ثمة خطوات ثلاث يمكن البدء بها للتقليل
من أعراض هذا الوباء على الأطفال:
- أولها
إبعاد الطفل قدر الإمكان عن المؤثرات الإعلانية/ الإعلاميَّة الضارة إلى سن
السابعة، وذلك حتى تتشكَّل منظومة القيم الأساسية التي يجب أن تُراعى فيها موافقة
الكسب للفطرة لا مناقضته لها؛ لينشأ الطفل سويّ النفس مُستقيم الفطرة.
- وثانيها شغل الطفل باستمرار بأنشطة فردية
واجتماعية نافعة، سواء ممارسة الرياضة أو العمل الخيري والطوعي، والتعرُّف إلى
أطفال آخرين من خلفيَّات مُشابهة؛ لتكوين شبكة اجتماعية بديلة (مهما كان صغرها) تُغني
نفسيّا عن الشبكة التي ترزح تحت وطأة الثقافة الاستهلاكية المعادية للإنسان.
- أما
ثالثة الأثافي، وأهم الخطوات على الإطلاق؛ فهي أن يجتهد الآباء في علاج أنفسهم
واستنقاذها من هذه المنظومة الشيطانية، وذلك حتى يتسنى لهم إنقاذ أطفالهم. ولن
يكون ذلك إلا بترويض النفس على تقليص تطلُّعاتها المادية الدنيوية، وكبح جماح
شهواتها (مهما بدت حلالا في ظاهرها!)، وليس بالضرورة العودة لثقافة "الستر"؛
لكن المهم هو كبح الرغبة في الاستهلاك ومحاولة وأد آثارها كدافع للحركة الاجتماعية
والإنسانية.
إن
ازدياد قوَّة المؤثرات الخارجيَّة في هذا العصر، عن طاقة احتمال الإنسان البالغ
العاقِل؛ لا يجعل واجب الآباء ومهمتهم التربويَّة بحق أبنائهم شديدة العُسر فحسب،
بل يجعل مهمتهم هم أنفسهم في مقاومة هذا الخَبَث أبلغ مشقَّة. لكن من قال إن
الحياة شيء آخر سوى الكبد؟!
(*
لمزيد من التفاصيل حول المسألة؛ راجع مقالنا المعنون: "مع القرآن"،
والمتاح على شبكة الإنترنت).