حشد كبير مجتَمِع أمام أحد دور
السينما، لقد تم بناء هذه السينما حديثا وأفلامها المعروضة حَصرِيـة لها، فلا عجب من الازدحام أمامها دون غيرها! دخل الحشد الكبير بعد الاقتتال على شباك التذاكر إلى الصالة الواسعة ذات الشاشة الضخمة والمقاعد الكثيرة المصطفة جنبا إلى جنب بعرض الصالة، دخلوا في همجية واندفاع، ثم جلس كل منهم منتظرا عرض الفيلم، لكن.. كأنهم يعرفون بعضهم!
ملامحهم متشابهة كأنهم من دمٍ واحد! حتى أن لسانهم واحد.. هل هم أخوة؟ يستحيل أن يكون هذا العدد كله أقارب لكنهم متشابهون جدا.
من العجيب أن هناك إقبالا كبيرا على هذا الفيلم؛ مع أنه ليس كوميديا، بل كان الإعلان الترويجي له عن أراضٍ محتلة وقتل وتشريد، عجيب أن نوعية
الأفلام هذه رائجة!
الصمت يعم المكان، إلا بعض الهمس المنخفض وصوت أنفاس ثقيلة، ثم قطع هذا الصمت رجل هزيل البنية وقف فجأة وصاح فيهم: أنا لا أعلم لماذا جئنا إلى هنا وتركنا أرضنا.. لماذا أنتم صامتون هكذا؟ ألأنهم دفعوا لكم تذكرة الفيلم؟
فقام آخر مفتول العضلات غليظ الصوت صائحا: اخرس يا غبي.. إذا أردت الانصراف فاذهب وحدك إنا هاهنا قاعدون.
فـَبهُت الذي أراد الانصراف واصفر لونه ثم جلس على كرسيه بهدوء دون أن ينطق كلمة واحدة. كأنه لا يعلم طريق العودة أو طريق أرضه المتروكة! ثم قالت عجوز أخرى: لماذا أنتم مضطربون هكذا؟ سنشاهد الفيلم الجديد ثم نعود لتلك الأرض.
ثم أظلمت القاعة بشكل مفاجئ، وأطلقت الشاشة العملاقة أشعتها بصوت موسيقي عالية مخيفة، وظهر رجل على الشاشة قائلا: مرحبا بكم في العرض الأول لفيلم "الأرض المقدسة"، قد يحتوي الفيلم على مشاهد قتل وتدمير واحتلال مقدسات ومؤامرات خبيثة؛ لكنها لا تَمتُ للواقع بـِصلة إنها محض خيال المخرج.
وبدأ الفيلم بداية غيره من الأفلام، مؤامرات تدريجية ونوايا خبيثة وحبكات درامية، حتى جاء منتصف الفيلم وكان مشهدا لسقوط قائد الجبهة صاحبة الحق والأرض، وحالما سقط القائد في الفيلم انقلب الواقع فجأة.
وكـُسر باب صالة السينما بعنف ودخلت مجموعة تـشبههم، ففزع من في الصالة ووقفوا مستديرين نحو الباب، فقال رجل من المجموعة المُقتَحِمَة بصوتٍ خالطه الغضب والأسى: "لقد احـتُـلت أرضـكـم يا عَرب"..
فانقبضت القلوب وصَمتَ الجميع.. حتى أن الفيلم توقف فجأة دون نهايته، وظهر بالشاشة الرجل الذي ظهر ببدايته.. وقال: لقد انتهت القصة وضاعت أرضكم ويمكنكم الخروج وإكمال الفيلم على أرض الواقع، فسيكون أكثر تشويقا وإثارة.
ثم تفرق الإخوة من بعد جمعهم، وخاروا من بعد عزمهم، وذُلوا من بعد مجدهم، فلا قائد يجمعهم ولا قوة تحركهم، ونسوا الوصايا والفروض، وضياع أرضهم أمام الشهود، وحسابهم في اليوم الموعود، ماذا سيقولون؟ أضعنا أرضنا بينما كنا قعودا، نشاهد فيلما مشؤوما مكذوبا!
وقد ظهرت فئات منهم، تسير بين الناس وتذَكِرهم، بأرضٍ مقدسة ضاعت في غفلة منهم، لعلهم يقومون لنصرها وإعادة مجدها، لكن الإخوة نسوا أرضهم وأنكروا جهادهم وظنوا أن لا حيلة لهم، وأصبحوا يزورون دار السينما باستمرار رغم ما جلبته لهم من عار، وتنوعت أفلامها وأخذت تعرض أفلاما أكثر إفكا عن الأرض المحتلة؛ لكنها في الفيلم ليست محتلة، بل هي أرضهم الموعودة وحقوقهم بها مفروضة.
وقد صَدَّق من شاهد ووافق، حتى وإن لم يُصدِق فقد صَمَت.. وما الصمت إلا رضا وهوان.
أخذت أرضهم اسما غير اسمها ولونا غير لونها، مُغتَـصبةً من ظالمين فُجار ومُباعة من تافهين ضعفاء، بل والأدهى أن اتخذَ الاسم والعلم الجديدين صفة رسمية، والعاصمة المقدسة صارت مُدنسةً بأقدام
الاحتلال.
كانت تأتيهم نوبات متفرقة تذكرهم بماضيهم وماضي أجدادهم الأحرار، نوبات توكزهم وكزا وتؤزهم أزا للنهوض، لكن سرعان ما يذهب تأثير النوبة، وظلوا صامتين متخاذلين حتى وُلـِّيَ عليهم من لا يخاف الله ولا يرحمهم، وصاروا محتلين كما "الأرض المقدسة"، ولكن مُحتَـلِيهم من نفس أرضهم ويتحدثون بنفس لسانهم، فهم منهم وليسوا منهم.
أما عن الأرض المحتلة فهي ما انفكت عن المقاومة لحظة، ولا تركت السلاح بُرهةً، لم تخضع كإخوتها كما لم تنتظر مجيئهم، أما الإخوة فقد ضلوا الطريق بعد الهُدى وتفرقت بهم السبل، وشغلتهم الدنيا عن قضايا وأحوال الأمم، هذا وقد ظهر فيهم الكثير من أصحاب الهمم، يحاولون إيقاظ من غَـفَـل، ولا يزالون يسيرون بين الناس بالقيم، عـَلـهُم يعيدون ما ضاع من زمن.