انفض المولد، بعد يومين من الرغي، حيث سمعنا طحنا ولم نر طحينا. وكما هي العادة، فلا جديد تحت الشمس!
هذا هو المؤتمر السابع للشباب، الذي يعقد برئاسة عبد الفتاح
السيسي، والمعنى أن هناك ستة
مؤتمرات عُقدت لم تضف شيئا، غير أنها فرصة يتصدر من خلالها عبد الفتاح السيسي المشهد، ويستعرض مشيته وهو يدخل لقاعة المؤتمر وحيدا، ولمسافة طويلة، ترافقه الكاميرات، وهو أمر لم تعرفه
مصر في عهد الرؤساء السابقين. ولا نعرف إن كان يستعرض لياقته البدنية وقدرته على المشي، بما يعني أنه باق في الحياة وفي السلطة، أم أنه يستعرض هذا الحضور الأسطوري، بما يرتقي به ليكون ملكا لا رئيسا. ولا نعتقد أنها صورة تم استدعاؤها من زمن الملوك الذين حكموا مصر، مع أنه معروف عنه الشغف بالتقليد؛ وبهذا المؤتمر يستوحي تجربة جمال مبارك، مع وضع بصمته الأكثر بؤسا عليه!
الدروس المستفادة:
لا يستطيع أحد أن يذكر عائدا على مصر من هذه المهرجان في دورة انعقاده السابعة، فما هي توصيات كل مؤتمر، ليمكن بالتالي حساب العائد من وراء عقد هذه المؤتمرات؟ وما هي مطالب
الشباب التي أخذت بها الحكومة، وما هي حتى هذه المطالب أصلا؟ وكم هي نفقات كل مؤتمر؟ وهل بلد فقير زادت معدلات الفقر فيه، يتحمل كل هذا الترف، لمجرد أن شخصا ما يتحدى الملل، ولا يجد ما يبدد به وقت فراغه، فيكون اللجوء إلى هذا السامر، الذي يضيف مزيدا من البؤس والسخرية للمشهد؟!
إن متابعة للمؤتمرات السبع، لا بد وأن يطرح سؤالا عن الدروس المستفادة منها، وعن الباعث إليها، بعيدا عن ميل السيسي لأعمال المهرجانات، وما كان محروما منه بسبب تربيته العسكرية، وبعيدا عن شعوره العام بأن الناس لا بد أن يرونه بشكل يومي، باعتبار أن ظهوره اليومي دليل على أنه الحاكم للبلاد، وإن كانت هذه السياسة ستكون عبئا عليه مستقبلا، فلن يستطيع أن يغيب كثيرا عن المشهد، ولو أقعدته الظروف عن الظهور، بشكل يستوجب عليه أن يقدم تبريرا مقنعا لغيابه، وإلا فإن الشائعات ستأخذ مجراها. وقد يكون بعضها صحيحا، لكن ليس كل الصحيح من المفيد ترويجه!
ما علينا، فما هو هدف السيسي من هذه "الزفة"، وما يرهق به ميزانية دولة فقيرة، لا سيما وأن ما يثار فيه ليس أكثر من كلام في الهواء؟!
دولة السيسي:
الواقع، أن عبد الفتاح السيسي يقوم بعملية تخليق لدولته، وقد قلت مبكرا إنها دولة ستنفي كل من له علاقة بالسياسة، أو كل أصحاب المرجعيات السياسية، وإن كانوا من مؤيديه، فلديه ريبة من أصحاب الأفكار السياسية، وإن كان يمكن أن تستغل لصالحه. ولأن رحم الأم لا يمكنها من الحمل الطبيعي، فلا بد من الاستعانة بتجربة "أطفال الأنابيب"، وكأنه يستحدث دولة من العدم، أو يعيد بناء الدولة المصرية على "مقاسه" هو، مع إدراكه التام أنه ليس عبد الناصر، أو السادات، أو حتى مبارك. وكل من ناصر والسادات كانت لهما سوابق في العمل السياسي، أما مبارك فقد ورث قماشة الدولة عريضة، فاعتمدها كما هي في البداية، وحاول تقليصها، لكنه لم يصل بها إلى مرحلة التجهيل السياسي. وجاء جمال مبارك، وكانت له ظروفه الخاصة، فاستعان بشباب من خارج السياسة في محاولته سرقة الحزب الوطني من الحرس القديم!
فما يفعله السيسي الآن، هو إعادة تطوير لتجربة شباب المستقبل الخاصة بنجل الرئيس المخلوع، والتي قام بالتوسع فيها في مرحلة سيطرته على الحزب الوطني، وكانت تطويرا لتجربة أمنية بالأساس، هي تجربة شباب حورس. ففي سعيها لمواجهة الشباب المسيس في الجامعات، ولأنها تجربة قامت عليها الأجهزة الأمنية، وفي حدود تصوراتها التي تفتقد للإبداع، قامت تجربة حورس على عملية الغواية بعيدا عن السياسة بالرحلات والحفلات، لتنتهي سريعا بعد انكشاف بعض الممارسات غير الأخلاقية في رحلاتها. ولم تكن "حورس" سوى تطويرا لفكرة المخبر السري، الذي يكتب التقارير في زملائه، أو من يكلف بإفساد أنشطتهم. وعملهم في العلن أفقدهم الكثير من القدرة على ممارسة الأعمال التقليدية للمخبرين السريين!
منظمة الشباب:
فالمهم في هذه التجارب البائسة هو أن تكون بعيدا عن دائرة السياسة، لكن جمال مبارك كان يحيط نفسه ببعض الذين لهم علاقة بالتنظير السياسي، وقد قدمت له كلية الاقتصاد والعلوم السياسية مجرى ملاحيا لدعم تجربته، سواء عن طريق الذين تخرجوا فيها (عبد المنعم سعيد نموذجا)، أو الأساتذة بها، ومن علي الدين هلال، إلى مصطفى علوي، وانتهاء بمعتز عبد الفتاح، لكن من مثلوا دعائم التجربة كان يمثلها وافدون على المشهد السياسي، بقيادة رجل الأعمال أحمد عز، ومن خارج أسوار السياسة ومنتدياتها!
ومن الظلم أن نقارن هذه التجربة بتجربة سابقة كانت السياسة هي عمادها، رغم رأينا السلبي فيها، وهي تجربة منظمة الشباب في عهد عبد الناصر. فتجربة السيسي هي امتداد لتجربة جمال مبارك، وإذا كانت تجربة نجل الرئيس السابق قامت على دعامتين كما بيّنا، فإن السيسي لم يأخذ منها إلا الجانب الذي يعد امتدادا لتجربة "حورس" سيئة الصيت، وقد بدأت في عهده بتجربة "في حب مصر"، ثم تجربة حزب شباب مستقبل وطن، لتتبلور في تجربة مؤتمرات الشباب. فحتى في تجربة الحزب فقد تمت الاستعانة بشباب من خارج العمل السياسي، وبدون أن تكون لهم سابق علاقة بها!
إعادة تشكيل الدولة المصرية:
فالسيسي الذي اعترف بأنه ليس رجل سياسة، مقلدا في ذلك عبد الناصر عندما قال إنه رجل ثورة وليس رئيس وزراء محترفا، يعتقد أنه يستطيع أن يعيد تشكيل الدولة المصرية بعيدا عن السياسة، فاته أن عبد الناصر كان يقول هذا وهو صاحب تجربة في الانضمام للتنظيمات السياسية، فضلا عن أنه كان يحتمي في كونه صاحب ثورة، ولا يجوز أن يكون المقابل لرجل الثورة هو أنا رجل عسكري، فليس في الأمر مبعث على التفاخر في ميدان السياسة والحكم!
وفي مؤتمرات السيسي، لا كلام في السياسة الداخلية أو الخارجية، ولا حديث عن حقوق الإنسان أو الإصلاح السياسي، ولا حرف عن قضايا الوطن الكبرى، فكل الكلام لغو؛ لأن السيسي يريد إلغاء الدولة المصرية، ليصبح من قبله العدم، ويقوم بتقزيم هذه الدولة لتكون مصر بكل تاريخها ورموزها هي على مستوى عسكري لم يخض حربا، ومتحدث لا يجيد نطق جملة مكتملة، وحاكم لا يعترف بأنه لا يفهم في السياسة، فيختزل مصر لتكون في مستوى أسرة، وليس حتى في مستوى قبيلة. فبدلا من أن يطور من إمكاناته ليكون جديرا برئاستها، يهبط به لتكون في حدود قامته.
ولا يدرك أنه يعاند نواميس الكون، وإن مثّل اعتراف منه أن مصر كبيرة عليه.
إن نواميس الكون غلاّبة.