هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أُوْلي شراء الكتب (في الغالب الأعم) أولويَّة مطلقة على ما عداه من شؤون الحياة الضرورية، بما فيها المأكل والملبس. وهذا مصدره شغفٌ حقيقي ورغبة مؤرِّقة بإلحاحها في المعرفة والفهم. وهي رغبة من القوَّة عندي بحيث تُهمِّش سائر الدوافع الإنسانية، بما فيها الدوافع البيولوجية الملحَّة.
وقد مرَّت بي أوقات كنت أبتاع الكتب وأبقي لطعامي أقل القليل، خبز بدون إدام أو أرز مسلوق؛ أو قد تمرُّ أيام لا آكل فيها شيئا على الإطلاق لأني ابتعتُ كتبا بكل ما توفَّر لي من مال. وإلى الآن (بعد أن بلغت الأربعين) لا زالت هذه العادة تُلقي بظلالها على حياتي في بعض الأحيان.
ولا يعني هذا أني ناسِكٌ، أو زاهِدٌ في متع الحياة المادية، وراغب عنها، أو لا أحسن التمتُّع بها متى تيسَّرت؛ بل يعني أن تحديدي لأولوياتي صارمٌ لا يتغير. فرغم حُبي للطعام الممتاز والملبس الممتاز، وسائر مظاهر "الحياة الطيبة"، مثلي في ذلك مثل سائر بني البشر؛ إلا أنهما تاليان عندي في الأهميةعلى شراء كتاب وتحصيل المعرفة.
وقد حكم نفس هذا المنطق الصارِم طريقة عملي حين بدأت العمل في مجال نشر الكتب، قبل ما يزيد عن العقد. إذ صار نشر المعرفة أولوية تالية الأهمية مباشرة على تحصيلها، وسابقة على التمتُّع بمظاهر "الحياة الطيبة". بل صار استنزاف هذه المهمة المحبوبة لي (ماليّا وبدنيّا وذهنيّا) في بعض الأحيان مصدر عجب من أعرف. فأنا تاجر أبّا عن جد، يُمكنني ممارسة تجارات مختلفة أكثر إدرارا للربح، وأعظم تيسيرا لسُبُلِ العيش؛ لكني أفضل نشر الكتب رغم المشقَّات الكثيرة، التي لا تنتهي(1).
وأذكر أن شيخي في عالم النشر(2) قد حاول صرف همَّتي، حين علم بنيَّتي خوض هذا البحر اللُجي؛ إذ قال لي إن النشر يلزمه عُمر نبي الله نوح وصبر نبيِّه أيوب (عليهما السلام) إضافة إلى مال قارون... ومع ذلك لم أرْعَوِ، ولو للحظة!
فلا غرو أن صار نشر الكتب عندي أولوية مطلقة وسابقة على الطعام الجيد والملبس الحسن، بل وأحيانا على العناية بصحَّتي. فنشر كتابٍ جديدٍ مُفيد أهم عندي من تناول ثلاث وجبات في اليوم، واختيار وترجمة ومراجعة وتدقيق محتوى الكتاب أهم عندي من الحصول على ما يلزم الإنسان المتوسِّطُ للراحة.
وربما كنت أفعل ذلك وأنا أضع نصب عيني أنه، منذ بدء الخليقة؛ لم يبرُز إنسان في شيء إلا بعد أن أعطى كل نفسه وماله ووقته، بغير توقُّعاتٍ مُسبقةٍ أو انتظار لنتائج بعينها؛ بل محاولة منه للاستقامة بالإخلاص... ألَّا يجد وقتا للتشاؤم أو حتى للتفاؤل، بأن يغرق حتى الأذنين في ما يفعل؛ مسوقا بحب ما يفعل وإيمان بما يفعل، ومراقبة لله في ما يفعل. ستعتريك لحظات ضعف كثيرة بالتأكيد، وتودُّ لو تراجعت، بل وقد تتراجع فعلا خطوة أو خطوتين؛ لكنك ستتغلَّب على هذا الضعف العارِض أسرع كلما أوغلت في طريقك المحبوب. وستتغلَّب عليه أسرع في كل مرة، إذ يصير بابا لعروجك إلى الله، وقُربى له سبحانه.
لماذا أسوق هذا كله بين يدي القارئ؟
لأضرب مثلا حيّا على أن شغف الإنسان بأمرٍ قد يستوعبه كليّا، ويهمِّش كل ما عداه؛ بل يستولي عليه حقيقة لا مجازا.
فما عائد هذا الشغف؟
إن الشغف/ الإيمان نفسه هو العائد، وهو نِعْمَ العائد؛ لكن قومي لا يعلمون. فإن الشغف أو العشق هو المادَّة الأوليَّة للإيمان، وما الإيمان إلا تكثيف للعشق/ الشغف كما يذهب تولستوي.
نسأل الله أن يكتبنا من عباده المؤمنين.
__________
(1) للمزيد من التفاصيل؛ يُراجع مقالي: "لماذا أنشر الكتب"، وهو متاح على شبكة الإنترنت.
(2) هو الحاج حسين عاشور، مؤسس دار ومجلة "المختار الإسلامي"؛ رحمه الله وأجزل له المثوبة. وللمزيد عنه يمكن للقارئ مطالعة مقالي: "في حب حسين عاشور"، وهو متاح على شبكة الإنترنت.