هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تعيش الجزائر على وقع صفيح ساخن منذ نهاية شباط (فبراير) الجاري، بعد تعالي الأصوات الرافضة لتجديد الرئاسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وصولا إلى إسقاط نظامه واستمرار المطالبة بإتمام ما تبقى من هذا النظام في أفق التأسيس، لانتقال ديمقراطي حقيقي يجعل من الشعب سيد نفسه وصاحب القرار في اختيار من يحكمه.
ومع أن الظاهر على السطح في المشهد الجزائري هو حراك شعبي في مقابل سلطة تتحكم فيها المؤسسة العسكرية بشكل كامل تقريبا، فإن حراكا فكريا يعتمل في الساحة الجزائرية مبشرا بميلاد خارطة سياسية وفكرية جديدة تعبر عن الأجيال الجديدة، التي ينتمي أغلبها لدولة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.
ومع أن التأريخ لعمليات التحول الكبرى كالتي تعيشها المنطقة العربية منذ أواخر العام 2010 إلى يوم الناس هذا، مشوبة بالكثير من التعقيدات والصعوبات، بفعل حيوية المشهد السياسي العربي وتعدد أطرافه، فإن ذلك لم يمنع من رصد المحددات الكبرى لهذه التحولات والأطراف الفاعلة فيها.
الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار، يرسم في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، ملامح المشهد الفكري والسياسي في الجزائري بعد اندلاع الحراك المطالب بالتغيير في أواخر شباط (فبراير) الماضي، وهو رصد يأخذ بعين الاعتبار ليس فقط مطالب الجماهير المنتفضة، وإنما أيضا تفاعل النخب الفكرية والسياسية معها.
حراك فكري وسياسي
تشهد الساحة الجزائرية، موازاة مع الحراك المستمر منذ أكثر من سبعة أشهر، حراكا سياسيا وفكريا لا يقل أهمية عن حراك الشارع، يتمثل في ميلاد حركات وأحزاب جديدة، برؤى وفكر جديدين، تختلف كلية عن منظومة الطبقة السياسية القديمة المتهالكة، التي واكبت منظومة الحكم البوتفليقي وما قبله، بما يشكل مخاضا حقيقيا لميلاد طبقة سياسية وفكرية مختلفة، سواء من حيث المنطلقات الفكرية والأيديولوجية، أو من حيث الحركية والفاعلية وتجاوز الأطر الكلاسيكية التي ظلت تتحكم في الفعل السياسي منذ 57 سنة من عمر الدولة الوطنية الفتية.
ورغم أن حالة التصحر السياسي التي فرضها النظام البائد، وعمليات الإقصاء التي مارسها ضد الجميع، شكلت حاليا عائقا رهيبا في وجه التغيير، وإيجاد نخب وطنية قادرة على الفعل، وطرح الأفكار القادرة على تقديم البدائل، إلا أن المحاولات التي تم تسجيلها بهذا الصدد، تشكل بحد ذاتها تحديا لهذه الوضعية من "الخواء الفكري والسياسي" الذي تم برمجته طوال أكثر من عشرين سنة الماضية، كانت فيها الأحزاب والحركات المؤيدة، لا تنتج غير خطابات التأييد والمساندة لبرنامج "فخامته"، بينما واكبت أحزاب المعارضة (نظرا لطبيعتها التابعة) تلك العروض المسرحية، بالمشاهدة فقط من دون القدرة على طرح أفكار قادرة على التغيير في مشاهد تلك المسرحية ولو في كلمة واحدة.
لكن المهمة لا تبدو سهلة أبدا، فالعوائق كبيرة، والخلفية النضالية تكاد تكون منعدمة، كون الحركات والأحزاب الجديدة، نابعة من بعض القوى التي ظلت على الهامش، ومعزولة عن الحركة، كما أن منظومة الحكم الحالية، لا يبدو أنها مستعدة للقبول بتغيير الخارطة السياسية القديمة بسهولة، خاصة بعد قبولها بإعادة رسكلة أحزاب السلطة الحاكمة القديمة (جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي)، في مقابل تأجيل النظر في اعتماد هذه الكيانات الوليدة، ربما إلى ما بعد الرئاسيات التي هي على الأبواب.
فهل يمكن أن يتغير المشهد؟ وما هي الأفكار التي تحملها هذه القوى الصاعدة؟ وهل يمكن أن تغير في المعادلة القديمة شيئا خاصة في موضوع القدرة على الحشد وتقديم البدائل؟ وما دور الشباب تحديدا في هذه الحركية؟.
حركات وأحزاب في قائمة الانتظار
رغم إقدام الحكومة الجزائرية على منح الاعتماد لعشرة أحزاب جديدة، في الأسابيع الأولى من انطلاق الحراك الشعبي، إلا أن تلك الخطوة لا يمكن إدراجها ضمن الانفتاح على القوى الجديدة التي أنتجها الحراك، باعتبار أن طلبات اعتماد تلك الأحزاب كانت قد قدمت لوزارة الداخلية قبل مدة طويلة من انطلاق الحراك، ومن ثم فكل تلك الأحزاب هي خارج التصنيف الخاص بالقوى الجديدة التي بدأت تتشكل بهياكل ومنظومة فكرية مختلفة تماما عن المنظومة التقليدية.
وقد برزت بشكل لافت من البداية، حركة "عزم" التي يقودها صفوة الشباب الجزائري المثقف، كقوة مختلفة من ناحية الطرح والحركية، وقد شرعت سريعا في تقديم نسفها بديلا مثيرا للإعجاب، بما تقدمه إطاراتها من رؤى وأفكار ومشاريع قوانين ومبادرات في عمق الأزمة الجزائرية، لم تقدر على تقديمها أعرق الأحزاب وأكبرها، ليتضح مع الوقت أنها مختلفة بالكامل في طريقة الأداء، عن المنظومة الحزبية القديمة المتسمة عموما بالسلبية وانتظار مبادرات السلطة، الأمر الذي يجعل من الحركة الصاعدة التي استطاعت أن تهيكل نفسها في كامل التراب الجزائري، رقما صعبا في مستقبل العمل السياسي بحسب جل المراقبين، خاصة في الاستحقاقات المقبلة كالانتخابات التشريعية والبلدية.
في مقابل ذلك، برزت أحزاب وحركات عديدة أخرى، مثل حزب السيادة الشعبية الذي يتزعمه المعارض السابق، النقيب أحمد شوشان من لندن، الذي أجل عودته إلى الجزائر في آخر لحظة لأسباب مجهولة، غير أن الحزب ينشط على المستوى المحلي، وكان قد أطلق نداءه للشعب الجزائري "لقد آن الأوان لكل الرجال والمخلصين للجزائر النوفمبرية، أن يؤسسوا لمشروعهم الوطني على أساس بيان أول نوفمبر الخالد ومواصلة تحقيق أهداف ثورة التحرير المباركة"، موضحا "أن كل المؤشرات والأدلة تؤكد انهزام المشروع الفرنسي الاستئصالي الإرهابي في الجزائر، وأنه يعيش لحظاته الأخيرة وهو قاب قوسين أو أدنى من الانقراض".
إضافة إلى التيار "العقبي" (نسبة إلى الفاتح الإسلامي الخالد عقبة بن نافع) الذي انطلق بعد الحراك تحت مسمى "جزائريون"، ويقوده الشاعر المعروف محمد جربوعة، إضافة إلى "الجبهة الشعبية الوطنية المحافظة" التي تدعمها مدرسة القطط، بقيادة الدكتور بن كولة، وزعيمها الروحي محمد الوالي، المعروف بالماريشال القط، وكذا ما يعرف بالتيار الأصيل، وحركة بداية ومنتدى المثقفين، وجبهة ائتلاف القوى النوفمبرية، وحركة أحرار التي يوجد قائدها رضا بودراع في تركيا، وينتظر بدوره مثله مثل أحمد شوشان العودة إلى الجزائر.
ولم يقتصر الأمر على الأحزاب والحركات السياسية فقط، بل إن الساحة النقابية بدورها بدأت تبرز قوى جديدة، مثل النقابة الجزائرية لعمال التربية (سات) التي أعلنت عن نفسها مؤخرا، إضافة إلى تنسيقيات وتجمعات مختلفة، لعل آخرها وأهمها هو الإعلان عن ميلاد "التنسيقية الجزائرية لأنصار المشروع الوطني"، التي أظهرت في صفوفها مع عملية الإعلان عددا كبيرا من الأسماء النخبوية المميزة من الدكاترة وأستاذة الجامعات.
وما يلاحظ مع عموم هذه الحركات والأحزاب والتنظيمات، علاوة على أنها تنتظر جميعا الاعتماد الرسمي من طرف السلطة، هو أنها في غالبيتها العظمى تحمل خلفية فكرية متقاربة، ضمن مشروع التيار الشعبي الجارف "النوفمبري الباديسي"، وهو تيار استحوذ بشكل كامل تقريبا على حراك الجمعات الأولى من الانتفاضة ضد حكم بوتفليقة، قبل أن يتراجع لصالح التيارات العلمانية والإسلامية المتحالفة مرحليا، بعد أن اطمأن هذا التيار الوطني لخارطة طريق الجيش بإجراء انتخابات رئاسية نزيهة، وهو التيار الذي يحتضن مبادئ ثورة أول نوفمبر (دولة ديمقراطية في إطار المبادئ الاسلامية)، ويعلي من شأن الفكر الباديسي للشيخ ابن باديس، خاصة من ناحية الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية.
وينتظر أن تتضاعف أعداد الحركات والأحزاب الجديدة مستقبلا، في حال تبينت القوى الصاعدة أن القانون وحده من يتحكم في عملية منح الاعتمادات، وليس أشياء اخرى كما جرت العادة في الماضي، حيث يتم صناعة تلك الكيانات "المعارضة" في مخابر المخابرات وأجهزة الأمن، وهذا يعني انتظار أن ينجلي غبار الرئاسيات، لتتضح معالم المرحلة المقبلة.
تآكل التنظيمات الكلاسيكية وضرورة تجديد النخب
ولم يكن مثل هذا التململ الواسع ليحدث لولا أن التنظيمات الكلاسيكية والنخب المتكلسة التي ظلت تسيطر على المشهد الجزائري أدت دورها كما يجب، بل بالعكس تماما، فقد أعلن الجزائريون في حراكهم المتواصل، أنهم ليسوا ضد منظومة الحكم القائمة وحدها، بل وضد منظومته الحزبية والنقابية والجمعوية، التي كانت إما متواطئة مع الاستبداد أو مشاركة فيه.
فلقد فقدت أحزاب السلطة (حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي) مشروعيتها الأخلاقية، وهي تبصم بالعشرة على كل أوامر منظومة بوتفليقة، إلى أن وقعت في المحظور وساندت ترشيح رئيس مقعد ليتولى مصير الجزائريين لعهدة خامسة على التوالي، وهنا فقدت جبهة التحرير رصيدها التاريخي المتبقي، وتحول الحزب الذي كان ثوريا وباسمه تحررت الجزائر من الاستعمار، إلى جهاز رجعي بليد، تطالب الجماهير في الشوارع إلى إعادته إلى المتحف، كما تحول التجمع الديمقراطي الذي ولد "بشنبات" كما يقال، بعد الانقلاب العسكري سنة 1992، من حزب مقاوم للإرهاب إلى ممارس له، عبر دورات التزوير الممنهج التي كان يشرف عليها رفقة الإدارة.
وتكلست أحزاب المعارضة الإسلامية بين مشيخية لا تريد أن تتزحزح (مثال زعامة الشيخ عبد الله جاب الله لعدد من الأحزاب والحركات التي أنشأها)، بين مشاركة وإحجام في ولائم السلطة وتحالفاتها، حتى شكلت حركة "حمس" الإخوانية في وقت من الأوقات الاستثناء في مجالسة الفاسدين والركون إليهم، قبل أن تعود إلى رشدها، لكن بعد أن وقع الفأس على الرأس كما يقال.
أما المعارضة العلمانية فحدث ولا حرج، فأقدم حزب بالجزائر "جبهة القوى الاشتراكية" ما زال يعيش في ردهات العام 1963، تاريخ حمله للسلاح في مواجهة النظام البن بلي، وما أن توفي زعيمها التاريخي حسين أحمد أحمد قبل سنوات، حتى تبعثر الحزب طرائق قددا، صارت عملية السيطرة على مقره الرئيسي تتم عبر الضرب بالكراسي، ويقف الحزب البربري الثاني "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" بعد تخلي زعيمه التاريخي سعيد سعدي عن منصبه، ليصارع تاريخه الأسود في محاربة الديمقراطية التي يرفع شعارها عندما أتت بخصومه إلى السلطة. أما حزب "العمال" فكانت نهايته بنهاية زعيمته الأبدية لويزة حنون، التي صدر في حقها أخيرا رفقة شقيق الرئيس بوتفليقة ومدراء الاستعلامات السابقين حكما بالسجن 15 سنة نافذة، بتهمة المساس بسلطة الدولة والجيش.
وبعملية بسيطة لا يوجد في الساحة من القوى الكلاسيكية من يشكل البديل الموضوعي لطموحات الجماهير الثائرة في الشارع، حتى إن حزب "طلائع الحريات" ممثلا بزعيمه علي بن فليس، لا يعد سوى الوجه الآخر من حزب "جبهة التحرير الوطني"، بينما تقبع بقايا "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المحلة، التي فازت قبل 28 سنة بأول انتخابات تشريعية وبلدية حرة في البلاد، في ردهة الماضي الغابر، لا تكاد تخرج منه إلا لتسجن نفسها فيه، وقد شكل خطاب زعيمها الحالي، بعد وفاة الدكتور عباسي مدني، حالة جديدة، وهو يتحالف مع خصوم الأمس التاريخيين الذين وقفوا إلى جانب الدبابة، وشرعنوا لعمليات القتل الجماعي.
لكن أصوات عاقلة داخل الجبهة الإسلامية ما زالت ترسل برسائل الأمل في غد مختلف، ومن ذلك رسائل الشيخ علي جدي، الذي ثمن في منشور له عبر الفيسبوك المبادرات الشبابية الجديدة للتهيكل، على ألا تقتصر كما قال: "على الرجال دون النساء ولا على الميدان السياسي دون الميادين الإعلامية والجمعوية والفكرية والاستشرافية"، مشيرا إلى أن "مستقبل الجبهة الإسلامية للإنقاذ بل الجزائر كلها في تشجيع الشباب على التجديد والمبادرة والريادة، لاسيما والجزائر على أبواب تسليم مشعل القيادة من جيل الثورة إلى جيل الاستقلال، وعلى أبواب تجديد النخبة السياسية والمجتمعية والفكرية بطاقات من الشبان والشابات من أهل العزم والهمة والطموح".
"عزم".. هبة في وجه الصمت والسلبية
ولقراءة المشهد المتحرك بشكل أفضل، سألنا القيادي في حركة "عزم" وعضو أمانتها الوطنية فيصل عثمان، عن ظروف ميلاد الحركة وخلفياتها الفكرية، فأكد أن "عزم" هي هبة في وجه الصمت والإذعان والسلبية التي كادت أن تأتي على كل ما تبقى من أمل في الساحة السياسية. وأنها طموح لتقديم البديل السياسي الناجع والواعي والقابل للتنفيذ بعيدا عن بيع الأوهام.
وأوضح فيصل عثمان لـ "عربي21" أن "عزم" هي ثورة ضد الصورة النمطية السلبية عن الأحزاب وعن اللافعالية السياسية للشباب التي تكرست في عقول الجزائريين ونسعى لنغيرها. إنها باختصار استمرار للحركة الوطنية، ووفاء لهوية الجزائر الأصيلة.
وبخصوص تقييمه لميلاد ونشأة حركات وأحزاب سياسية جديدة بعد الحراك، قال فيصل عثمان إنه من الضروري ميلاد تنظيمات سياسية جديدة، بل إنّ إنشاء أحزاب وفعاليات سياسية وجمعوية جديدة واجب في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الجزائر، فنحن مقبلون على مرحلة نحتاج فيها إلى دماء جديدة وتقاليد وأعراف وممارسات مختلفة عما عرفته الجزائر، ونحن مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بصناعة خارطة سياسية تحلّ محلّ الخارطة الكلاسيكية، التي لم تعد تحظى بأي أهمية ولا تأثير، وهذا رغم أن الملاحظ لمعطيات الواقع يجد سلبية وقصورا شديدين في المبادرة بإنشاء تلك التنظيمات، رغم مضي أزيد من 7 أشهر عن بداية الحراك الشعبي.
أما عن تغيير الخارطة السياسية والفكرية في الجزائر فقد اعتبر ذلك حتمية تاريخية، بالنظر إلى النهاية البيولوجية للشخصيات القديمة أولا، وتهلهل القوى السياسية القديمة ثانيا، وفشلها في التأثير على مسار الأحداث واستقطاب المواطنين وتجنيدهم، مشيرا إلى أن الهوّة التي نراها اليوم بين الأحزاب والقاعدة الشعبية، تجعلنا على يقين تامّ بأنّ زمن التنظيمات القديمة ولّى إلى غير رجعة، والشباب اليوم يحمل "فكرة آن أوانها" ستنتشر وتثمر.
وخلص القيادي فيصل عثمان إلى التنبيه إلى وجود عوائق في وجه هذه الحركية الجديدة، أبرزها ضعف الثقافة السياسية لدى الجزائريين، نظرا لغياب تنشئة سياسية سليمة، وسلبية الفرد التي ورثها عن المنظومة الاستبدادية، إضافة إلى الاستقالة الشبابية من المشهد السياسي، منوها "نحن على استعداد تامّ لتغيير الذهنيات وإقحام الجزائريين في الفعل السياسي، وكسر الجمود والسلبية، سعيا لتكريس أعراف جديدة في الممارسة السياسية".
تجارب فاشلة
ولا يمكن إحصاء محاولات التكتل وإنشاء تنظيمات أو أحزاب أو حركات، لكن الملاحظ أن غالبيتها ينتهي بعد استنفاذ الطاقة الأولى من "الحماس الثوري"، وسرعان ما يكتشف المجتمعون حول فكرة، أنهم يختلفون في أفكار، وسرعان ما تخور الهمم العالية، لأن طريق النضال ليس مفروشا بالورود كما يتصور البعض.
ويرجع فشل الكثير من المبادرات ومحاولات التهيكل، في أوساط القوى الوطنية النوفمبرية، التي تشكل واقعيا الأغلبية الشعبية المهمشة، إلى حالة التشرذم المعروفة لدى هذا التيار، وما يتخلله من حب للزعامة بين الكثير من رؤوسه، علاوة على رفض التنازل للآخر، للكيانات الصغيرة، من أجل الفكرة الشاملة والمصلحة العامة.
كما أدت بعض الأفكار المتطرفة دورا في زعزعة بعض المحاولات وودأها، مثل فكرة "صفر قبائلي" (القبائل هم سكان منطقة جرجرة من الأمازيغ)، التي طرحتها جماعة القطط في لقاء مستغانم، وأدت إلى خلافات كبيرة، بينما ساهم التضييق الرسمي في فشل محاولات أخرى، ظن أصحابها أنهم بمجرد ما يقدمون طلباتهم للإدارة ستكون الأبواب مفتوحة في وجوههم، وهذا يعاكس منطق النضال بحد ذاته.
نموذج لمشروع طموح
وحول ميلاد التنسيقية الجزائرية لأنصار المشروع الوطني، التي ضمت العشرات من الدكاترة وأساتذة الجامعات والحقوقيين، يقول محمد حديبي، البرلماني السابق، وقيادي مؤسس في التنسيقية، أنها جاءت استجابة لصرخات الملايين من الجماهير التي خرجت مطالبة بتغيير الوضع السائد.
ورجّح حديبي محمد في حديث لـ "عربي21" الإعلان عن تشكيل التنسيقية هذه، كون الحظيرة الحزبية الحالية بكل أطيافها ومكوناتها ومواقعها استهلكت، وما عاد رصيدها قادرا لمواكبة الأحداث الجارية، فأصبحت الأطر الحزبية مشلولة الحركة والإرادة بفعل تراكمات السياسية، وأصابتها بعقم سياسي من تولي قيادات تحررية شبابية، تدرك التطورات الجارية وتسابق الأحداث وتجيب على تطلعات الشعب؛ لذلك جاءت التنسيقية بفكرة جديدة وخطاب جديد رافعة قبعة الوطن والتعايش مع الكل وفق أهداف ومبادئ خدمة الوطن، بعيدا عن الخطابات الأيديولوجية وثقافة الاصطفاف والتموقع الأيديولوجي.
وقال محمد حديبي، "إن ما يجري في الجزائر حاليا هو بمنزلة ثورة حقيقية في كل المفاهيم ومناحي الحياة، حيث تجاوز الحراك كل الأطر التنظيمية والمؤسساتية؛ ولذلك فإن الساحة بحاجة إلى أطر جديدة تجمع شمل الجزائريين لتحقيق أحلامهم، بعد أن يئس من تنظيمات سياسية وحزبية تورطت قياداتها بطريقة أو بأخرى مع النظام القديم سواء كمعارضة أو كسلطة، وأخفت الحقائق حتى على محيطها النضالي، وتحولت إلى أداة للتواصل مع السلطة ليس للتغيير، وإنما لضمان حد أدنى من مصالحها الشخصية والفئوية على حساب مشروع الوطن، وأعتقد أن الحتمية التاريخية تقول إن لم تتجدد سوف تتبدد، ونحن نعيش لحظة فارقة لتبديد كل الأوهام التي عاشها الشعب الجزائري سابقا.
يجب أن نقر أن التجربة السياسية في الجزائر ولدت مشوهة، خاصة في قمع المبادرات الفكرية والحزبية، بل إن النظام السابق صنع جدرانا سياسية وفكرية بين كل المدارس الفكرية السياسية وفرق بينها، ومنع النقاش مع الآخر وغذى العداوات حتى لا يكون هنالك جامع بين الفرقاء سوى السلطة نفسها.
إرادة في منع تغير الخارطة السياسية وبروز البدائل
أما البروفيسور جمال ضو الباحث في مجال الفيزياء النظرية بجامعة وادي سوف، فيعتقد أنه حتى وإن كانت هنالك مبادرات كثيرة لأحزاب وحركات ناشئة بعد الحراك، إلا أنها مع ذلك لم تستطع أن تحدث اختراقا في الساحة السياسية، معتبرا أنه من الصعب القول إن لأي حركة أو حزب نشأ بعد الحراك وجود حقيقي على الأرض، ربما الاستثناء الوحيد هي حركة "عزم" التي اعتبر أنها كانت عملا نوعيا، واستطاعت أن تفرض نفسها إعلاميا، وأيضا من خلال عملها الميداني وتواصلها مع قواعد شبابية، إلا أنها ماتزال لم تتحول إلى حزب حقيقي بقواعد شعبية، ولكن يمكن أن تصبح كذلك.
أما بخصوص تغير الخارطة السياسية وتغيرها فيرى البروفيسور جمال ضو في حديثه لـ "عربي21" أنه من الصعب الحكم من الآن، لأن هناك مؤشرات كثيرة تدل على عملية تضييق ممنهجة تمارسها السلطة الفعلية على أي نشاط سياسي ميداني وجماهيري من طرف أي جماعة أو حركة، ولهذا فالسلطة الفعلية تحاول أن تمنع تغير الساحة السياسية وبروز بدائل، ولكن هي مهمة النخب والشعب أن تفرض نفسها وتقدم بدائلها وتتحمل التضحيات، ولا تنتظر السلطة أيا كانت أن تفتح لها المجال لتتحول إلى منافس حقيقي لها.
المستقبل.. عقل راجح ويد نظيفة
وبينما تميزت العقود الماضية من الممارسة السياسية في الجزائر، بغلبة الغوغائية والأيادي الوسخة، بل وغلبة من يسمون بأصحاب "المهمات القذرة"، التي جعلت من الفساد قاعدة ومن الحكامة والشفافية الاستثناء، سيكون على الجزائريين المنتفدين اليوم على تلك الأطر البالية، أن يراهنوا وقد لاحت بوادر أمل، على العقل والأيادي النظيفة، وهذا يعني أن الرهان على الحركات والتشكيلات السياسية الجديدة، صار أمرا حتميا، وقد أعلن الشارع "كفره" الكامل بالمنظومة القديمة، سلطة ومعارضة.
الآن، يتم الفرز السياسي وفق قواعد جديدة وشروط لم تكن في الماضي، الآن انتهى زمن "الشكارة" أو دور المال الوسخ، في شراء الأصوات لتنصيب وانتخاب "البقارة" (مصطح جزائري يعني بائعي البقر الذين تولوا المسؤوليات)، وبدأ الجيل الحراكي يضع شروطا صارمة للمترشحين، منها الكفاءة والنزاهة والماضي النظيف، وعدم المشاركة في المسؤولية سابقا، وامتلاك البرنامج السياسي والنظرة الاستراتيجية للأوضاع الداخلية وحتى الصراعات الدولية.
ولذلك، فإذا قدر لانتخابات الرئاسة في الجزائر المقررة في 12 كانون أول (ديسمبر) المقبل، أن تجرى بالحد الأدنى من النزاهة والشفافية، فإن فجرا جديدا سيبزغ على هذا البلد، تقوده بلا شك طبقة سياسية جديدة، تشكلت طلائعها بالفعل، وقد تسلحت رؤى وفكر جديد بالكامل.