هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
التحول من المشروع الأممي الديني إلى المشروع الوطني المدني
بعد مرور أكثر من تسعين عاما على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، يطفو على السطح سؤال لا زال عالقا منذ عقود حول شكل المشروع السياسي الذي تسعى إليه الجماعة، وهل ما زالت الجماعة معنية بإقامة دولة الخلافة الإسلامية بمفهومها الإمبراطوري، أم إنها أصبحت تؤمن بمشروع الدولة الوطنية التي نشأت حدودها بعد رحيل الاستعمار عن المناطق العربية والإسلامية؟ فمفهوم الدولة في فكر جماعة الإخوان المسلمين يثار حوله جدل كبير بين أممية المشروع ووطنيته، وبين مدنية الدولة ودينيتها.
(1) الدولة في فكر الإخوان
يقول الإمام البنا رحمه الله في رسائله: "فاعلم أيّدك الله أن الإخوان المسلمين يرون الناس بالنسبة إليهم قسمين؛ قسم اعتقدوا ما اعتقدوه من دين لله وكتابه، وآمنوا ببعثة رسوله وما جاء به، وهؤلاء تربطنا بهم أقدس الروابط رابطة العقيدة، وهي عندنا أقدس من رابطة الدم والأرض. فهؤلاء هم قومنا الأقربون الذين نحن إليهم ونعمل في سبيلهم ونذود عن حماهم ونفتديهم بالنفس والمال، وفي أي أرض كانوا ومن أي سلالة انحدروا.
كما يرى الإمام البنا رحمه الله أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكر في أمرها والاهتمام بشأنها. والخلافة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي ودفنه، حتى فرغوا إلى تلك المهمة واطمأنوا إلى إنجازها.
كما أصّل البنا رحمه الله لمفهوم أستاذية العالم، وكان ينظر إلى الخلافة الإسلامية على أنها هدف سامي يجب على كل مسلم أن يعمل من أجل إعادتها، لكنه يرسم لذلك خطة في الوصول إلى الخلافة الإسلامية، والمنهج لديه متدرج في ذلك، إذ يبدأ بالفرد المسلم، ثم الأسرة المسلمة، ثم المجتمع المسلم، ثم الحكومة الإسلامية، ثم الدولة الإسلامية، ثم تعاد الخلافة الإسلامية، "فنصبح أستاذة العالم". ويقصد هنا بأستاذية العالم سيادة الدنيا لنكون المرجع والمعلم لكل البشرية، وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة، وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس.
هذا الطرح منسجم ومتماهٍ مع ما طرحه سيد قطب رحمه الله بعد ذلك، لكن مفهوم الدولة الوطنية ودولة المواطنة أكثر ضبابية لدى سيد قطب رحمه الله، إذ يقول: "الوطنية في الوطن الإسلامي الأكبر حيثما مد الإسلام ظله".
لكن مفهوم الدولة الوطنية ومفهوم دولة المواطنة جاء أكثر وضوحا ونضوجا في طرح المستشار الشهيد عبد القادر عودة رحمه الله، إذ قال: "إن دار الإسلام هي الأرض التي يسكنها المسلمون والذميون، وهم لهم جنسية واحدة في الشريعة الإسلامية".
كان لدى الإمام البنا رحمه الله وضوح في مفهوم الوطن، لكنه لم يكن لديه وضوح في مفهوم المواطنة بشكلها الحديث، فهو كان يؤمن بالوطن وحب الوطن وضرورة الدفاع عن الوطن وأرض الوطن، إلا أنه لا يعترف بالمواطنة على أساس البقعة الجغرافية، فالمواطنة تشكلت في فكر الإمام البنا على أساس الاعتقاد الديني حيث اعتبر أن رابطة العقيدة هي أقدس من رابطة الدم والأرض، فالبنا رحمه الله يؤمن بالوطن، لكنه لا يؤمن بالدولة الوطنية، ولا يؤمن بالمواطنة القائمة على أساس الانتماء للبقعة الجغرافية، وهو المعيار الحديث في تشكيل الدول.
جماعة الإخوان المسلمين أقامت عملها خلال قرن من الزمان تقريبا على هدف رئيسي، وهو استعادة دولة الخلافة الإسلامية بمفهومها الإمبراطوري، جهود كبيرة ومئات الآلاف من الكوادر التي ناضلت من أجل استعادة ذلك النموذج الحلم، وفي بعض الأحيان قدمت الحركة أرواح منتسبيها في سبيل استعادة ذلك النموذج، وعملت بإيمان مطلق من أجل استرجاع هذا النموذج.. فكرة كان لها سحر وقدرة كبيرة على جذب كوادر وشباب الجماعة، وكانت لها سيطرة استثنائية يرجعها البعض لعدة أسباب، نجملها بالتالي:
* تم التأصيل لمفهوم الخلافة داخل الفكر الإخواني في مرحلة المد القطبي على أنها جزء من أصول الاعتقاد، وتم ربط مسألة الحكم وإدخالها في باب الاعتقاد بدل فروع الفقهيات، فأصبح الحكم وطريقة الحكم جزءا من العقيدة؛ لا مسألة فقهية يمكن الاختلاف حولها في فكر الجماعة..
* الأفكار السياسية تكون أكثر قدرة على الانتشار إذا ما وجدت النموذج في تجارب قائمة ناجحة أو حتى تجارب سابقة، إذ كان يتم استحضار عصور الازدهار الإسلامي سياسيا وعسكريا وثقافيا على أنها نتيجة طبيعية لوجود الدولة أو نموذج الخلافة الإسلامية، وعادة ما يتم استحضار "مثالية" نموذج حكم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله الذي اشتهر حكمه بالعدل في الترويج لنموذج الخلافة الإسلامية المنشودة.
* استحضار فكرة الحروب الصليبية في مرحلة الانتداب الأجنبي بعد الحرب العالمية، وتصوير الانتداب نوعا من الحرب الصليبية التي لا يمكن مقاومتها إلا باسترجاع نموذج الخلافة الإسلامية.
* إقامة فكرة الخلافة على مبدأ الوحدة الدينية وما يشكله ذلك من تنوع جغرافي وديموغرافي وعرقي، وبالتالي تنوع في الإمكانيات والقدرات لإقامة إمبراطورية قادرة على أن تحكم العالم بأسره.
لكن الواقع يقول إن العمل من أجل استعادة دولة الخلافة النموذج الإسلامي في الحكم هو نوع من الوهم الجميل، والحلم الذي لا يمكن تحقيقه لعدة أسباب:
* اختلاف شكل الدول الحديثة وتحولها من الرعاية الدينية إلى الرعاية الوطنية، فالمعيار أصبح معيار البقعة الجغرافية لا الانتماء الديني في تشكيل الدول، نتيجة لانتشار الأديان، فتنوعت جميع مكونات المجتمعات في جميع دول العالم، والواقع يتعارض مع ما جاء في تنظيرات الإمام البنا رحمه الله ورؤيته لشكل الدولة.
* كما أن محاولة استرجاع الإمبراطوريات الدينية أصبحت نوعا من الوهم، فجميع الإمبراطوريات الدينية لم تعد موجودة، بما فيها الإسلامية، وأصبحت العلاقات الدولية والتكتلات السياسية تقوم على مبدأ المصالح المادية لا على أساس الارتباطات الدينية.
* غزارة التنوع الديني والطائفي بمنطقة الشرق والمنطقة العربية على وجه الخصوص، نتيجة لظهور الطوائف الإسلامية التي تولدت نتيجة خلافات سياسية في العصور الإسلامية القديمة، مما يجعل أي فكرة إقامة لدولة خلافة إسلامية كفتيل إشعال لحروب طائفية في المنطقة لا تبقي ولا تذر.
* عدم وضوح لمفهوم الدولة أو الخلافة الإسلامية المنشودة، إذ تتنازعها التعريفات؛ بين من يراها دولة جهاد وحرب وفتوحات، ومن يراها دولة إقامة حدود وتطبيق عقوبات، ومن يراها دولة حرية سياسية وضبط لحرية الأشخاص. فالحركات الإسلامية تنادي بالدولة، لكنها لم تبين على وجه التحديد تفاصيل وشكل تلك الدولة التي تريد، ولم تفكك مصطلحها بشكل يجعل لها إطارا يمكن فهمه وتطبيقه.
(2) التحول من الدولة الدينية إلى الدولة المدنية ومن نموذج الخلافة للدولة الوطنية؟
من الواضح حتى الآن أن جماعة الإخوان لم تحسم في كثير من فروعها موقفها بشكل صريح من فكرة الدولة المدنية، ولا زالت تثير حولها كثيرا من الشبه والتساؤلات الدينية المشوبة بالرفض. إذ لا زالت تعتبر الدولة المدنية نقيضا للدولة الإسلامية التي ينادون بها، لذلك لا بد لنا من تفتيت المصطلحات للخروج من العموميات إلى التفاصيل التي تزيل اللبس والغموض.
حتى الآن لا يوجدفي كتب السياسة الحديثة أو حتى في التاريخ السياسي تعريف صريح لمفهوم الدولة المدنية، فهو مصطلح مستجد انتشر بشكل كبير بعد ثورات الربيع العربي ووصول الحركات الإسلامية إلى مرحلة الحكم، فكان هذا المصطلح بمثابة همزة الوصل أو الجلوس في المنطقة الرمادية ما بين الدولة الإسلامية التي تأسست الحركة الإسلامية على هدف المطالبة بإحيائها والدولة العلمانية التي أنتجها العالم الغربي.
وحيث أن للعلمانية إشكالية كبيرة في العالم العربي من خلال ارتباطها بالاستبداد ما بعد رحيل الاستعمار وتركيز أتباعها على محاربة مظاهر التدين، جاء مصطلح الدولة المدنية كمخرج اتبعه بعض مفكري الحركة الإسلامية، مثل الترابي في السودان، للاستفادة من عناصر الدولة العلمانية التي ساهمت في بناء دول العالم المتحضر، والابتعاد عما علق بالعلمانية العربية من انطباعات غير إيجابية؛ نتيجة لمحاربة التدين والوقوف إلى جانب الاستبداد والأنظمة الشمولية في عهود ما بعد رحيل الاستعمار.
تفتيت المصطلح: تقوم الدولة المدنية على عدة عناصر وركائز نجملها بالتالي:
* الحرية: تقوم الدولة المدنية في ركيزتها الأساسية على مفهوم الحرية المطلقة، وعلى رأسها الحريات السياسية والحريات الشخصية التي لا سقف لها إلا ما يحدده نص القانون. فالإنسان في طبيعته حر من كل القيود إلا ما يرتضيه لنفسه من قيود دينية واجتماعية، وما يفرضه عليه القانون لضمان حريات الآخرين وحياتهم.
* الديمقراطية: لا يمكن أن تكون هناك دولة مدنية دون أن تكون هناك ديمقراطية وتداول سلمي للسلطة، وهذا ما تجاهلته الأنظمة العربية المستبدة، إذ اعتقدت أنها يمكن أن تؤسس دول مدنية دون حكم ديمقراطي، فكان فقدان هذا العنصر عاملا كبيرا في تفتيت هذه الدول وانفجارها داخليا على شكل حروب أهلية وانهيارها، بعدما شهدت حالات ازدهار مؤقتة مثل العراق وسوريا.. إلخ.
* سيادة القانون: تؤمن الدولة المدنية بسيادة القانون بداية من العقد الاجتماع الحاكم للعملية السياسية الذي يتضمنه الدستور، والفصل بين السلطات وسيادة نصوص القانون في كل تفاصيل الحياة اليومية، فلا سلطة فوق سلطة القانون إلا سلطة الشعب التي تصنع السلطة القانونية وتعدلها.
* دولة وطنية ودولة مواطنة: تأخذ الدولة المدنية بمعيار موضوعي، وهو المعيار الجغرافي. فكل من يعيش على ترابها ويحمل جنسيتها فهو مواطن له حقوق يتمتع بها كالتعليم والصحة والعمل.. إلخ، وعليه واجبات يجب عليه تحملها والقيام بها كدفع الضرائب واحترام القانون.. الخ. فمعيار العلاقة في الدولة المدنية هو معيار موضوعي بحت؛ يقوم على مبدأ الرقعة الجغرافية وحمل الجنسية، فلا تمتد اهتماماتها للخارج لتقوم بالرعاية الدينية أو العرقية أو المذهبية. فهي تؤمن بالمواطنة كأساس في تعاملها مع المقيمين على رقعتها الجغرافية وحملة جنسيتها، فكل من يرتبط بها بالجنسية هو مواطن يتساوى مع جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، لا فرق بينهم على أساس الدين أو اللغة أو العرق أو الجنس أو الأصل والمنبت. وكل من يحمل جنسيتها الوطنية هو مواطن كامل المواطنة لا ينتقص من حقوقه إلا بمقدار ما يقره القانون.
* حق التدين: تؤمن الدولة المدنية أن من حق مواطنيها أن يؤمنوا دينيا بما يشاءون، ومن حقهم ممارسة جميع شعائرهم الدينية ومعتقداتهم بكل حرية، ما لم تعرض ممارسة تلك الشعائر حياتهم أو حياة الآخرين ومكتسباتهم للخطر، أو تخالف النظام العام وتخل بأمنه. فالدولة المدنية لا تقف ضد التدين بل تحميه وتحرسه، وتقف على مسافة واحدة من جميع الأديان التي تعتبرها عنصر من عناصر تنوع المجتمع وثرائه.
* السلم والأمن المجتمعي: تؤمن الدولة المدنية بالسلم والأمن المجتمعي، فلا مكان للهويات الفرعية أمام هوية الدولة الجامعة، وإن كل الهويات الفرعية مصانة ومقدرة ما لم تتعارض مع فكرة الدولة الجامعة ونصوص القانون الحاكمة.
(3) إشكاليات الحركات الإسلامية مع الدولة المدنية
لا زالت يد الحركات الإسلامية المشرقية مرتعشة تجاه المضي فكريا نحو الدولة المدنية، مستخدمين مصطلح رفض الإستقراض الحضاري بحجة أنهم يملكون إرثا تاريخيا في الحكم، مثيرين بعض الإشكاليات حول الدولة المدنية كما يتصورون من عدة وجوه:
* يتصورون أن الدولة المدنية هو لفظ مضاد لدولة الشريعة الإسلامية. فعندما نتحدث عن قانون مدني، يعني أننا نتحدث عن قانون من وضع البشر، وليس قانونا من وضع الله وتشريعه. فكلمة المدنية نقيض لكمة الله أو لكلمة دينية.
* الدولة المدنية تساوي بين المسلم وغير المسلم والرجل والمرأة في حق استلام وتولي أعلى سلطة في الدولة، وفي ذلك مخالفة صريحة لأحكام للشريعة الإسلام كما يتصورون.
* الدولة المدنية تعطي الحق لجميع التيارات الإسلامية وغير الإسلامية للوصول للسلطة، وفي ذلك خطر على دولة الإسلام وشريعتها كما يتصورون.
* الدولة المدنية تجعل السلطة بيد الشعب، والحكم في الإسلام لله، والحاكمية من خصائص حق لله لا حق البشر، وأن وضعها بيد الشعب يعني إمكانية أن يسنوا القوانين المخالف للشريعة الإسلامية.
كيف يقرأ الفكر الإصلاحي داخل الحركات الإسلامية هذه الإشكاليات المثارة
التيار الإصلاح التجديدي الذي بدأ يظهر في بعض فروع الحركات الإسلامية؛ يرد على تلك الإشكاليات وتلك التصورات من عدة وجوه.
* إشكالية القول بأن الدولة المدنية تعني لفظا مخالفا للشريعة الإسلامية. وبالرجوع إلى تحليل الدولة المدنية، نجد أن الدولة المدنية هي نقيض لدولة الاستبداد ودولة رجال الدين (الدولة الدينية الثيوقراطية) والدولة العسكرية، وليست نقيض الدولة الإسلامية التي أقامها النبي الكريم. إذ إن دولة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي أول دولة مدنية عرفها التاريخ القديم، وإن وثيقة المدينة أول دستور مكتوب تحدث عن خصائص الدولة المدنية، حيث يقول المستشرق جيورجيو: حوى هذا الدستور (وثيقة المدينة) اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول لله، خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُوّن هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى العيش بحرية مع المسلمين، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم". فالدولة الإسلامية بنسختها الأولى (دولة النبي صلى الله عليه وسلم) هي أول دولة مدنية ومنذ ولادتها، وهي نقيض لحكم رجال الدين وحكم الاستبداد التي جاءت رسالة الإسلام لتحاربه.
* أما إشكالية مساواة الدولة المدنية بين الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم في تسلم السلطة والولاية العامة، فيرى التيار الإصلاحي أن معظم فقهاء أهل السنة منعوا ولاية المرأة العامة، واختلفوا في تسلمها القضاء، وكذلك منعوا تسلم غير المسلم للولاية العامة، باعتبار أن الولاية العامة كان هدفها رعاية الدين ونشره ورعاية شؤون العامة، إلا أن اختلاف شكل الدولة الحديث، وتحول الحكم إلى عمل مؤسسي وتبدل مهام السلطة لتصبح رعاية الشؤون العامة وتنمية الموارد وتوزيعها.. يجعل من المهم إعادة النظر في تلك الآراء الفقهية القديمة، خاصة أن تنمية موارد الدولة العبرة فيها للكفاءة، وأن الذكورة أو الدين ليس من الأمور التي تؤثر على الكفاءة والقدرة. وهنا يتوجب على التيارات الإسلامية أن تجترح أحكاما فقهية تناسب العصر الحديث وشكل الدولة الحديث، ولا تجمد على ما قاله الفقهاء قبل أكثر من ألف عام. إذ كانت للدولة وظيفة لم تعد موجودة حاليا، وكانت لها ظروفها الزمنية المختلفة، وإن الأخذ بهذه الآراء يعني أن نعطل كفاءة نصف المجتمع ونحرم الدولة من كل كفاءة غير مسلمة.
* ما إشكالية أن الدولة المدنية تعطي الحق لكل التيارات الإسلامية وغير الإسلامية فرصة الوصول للسلطة؟ مجرد طرح مثل تلك الفكرة واعتبارها إشكالية يعني أن تصور هذه الجماعات الإسلامية عن الدولة في الإسلام؛ هو تصور الدولة الدينية التي يحكمها رجال الدين أو الأطراف المتدينة، وأنه لا يحق لغير المتدين أن يكون جزءا من الولاية العامة.
وهنا ننقل مأثورة عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه؛ أنه قال لأهل مشورته حين أتعبه أهل الكوفة الذين كلما أرسل لهم واليا كرهوه: "ما تقولون في تولية ضعيف مسلم أو قوي فاجر؟"، فقال له المغيرة بن شعبة: "المسلم الضعيف إسلامه له، وضعفه عليك وعلى رعيتك، وأما القوي الفاجر ففجوره عليه وقوته لك ولرعيتك". وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل: مَن نولي قيادة جيوشنا: الكفء الفاجر، أم الضعيف التقي؟ قال: "أما الكفء الفاجر فخيره للأمة وفُجره لنفسه، وأما الضعيف التقي فخيره لنفسه وضعفه ضرر على الأمة". فلقد كان منذ البداية واضحا كل الوضوح أن الولاية للكفاءة، لا للتدين والتقوى.
* إشكالية أن الدولة المدنية تعطي السلطة للشعب والحاكمية هي حق خالص لله.. يرى أنصار الدولة المدنية أن كلمة الحاكمية كلمة حق أريد بها باطل، كما قالها الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، وأن الفهم الخاطئ لهذا المعنى كان السبب الرئيسي في تولد التطرف منذ ميلاد الخوارج إلى عصرنا الحديث، كما أن طرح هذه الإشكالية يوضح أن تصور هؤلاء وفهمهم للدولة الإسلامية هي الدولة التي تقطع يد السارق وتجلد ظهر الزاني، مع أن إقامة الحدود لا يتجاوز فرعا بسيطا جدا من فضاء واسع من مراد الشريعة الإسلامية الغراء؛ من قيام الدولة في تحقيق الحرية والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص.. الخ.
إن مجرد إثارة هذه الإشكالية مجددا يجعلنا نتساءل: هل فعليا أن مراد الدولة الإسلامية هو تطبيق الحدود فقط؟ وهل يجوز الاجتهاد في استحداث عقوبات أخرى غير ما ورد في نصوص القران في ظل تطور نظرية العقاب ونزوعها إلى إصلاح الجاني وتأهيله وردعه وحماية المجتمع، بعد أن كانت تقوم نظرية العقاب سابقا على ردع الجاني وحماية المجتمع؟ وهل ما حققه الغرب في مسألة إصلاح الجناة وتحقيق مراد الله في حماية المجتمع وأمنه؛ يفتح الباب أمام إمكانية الاجتهاد في مورد نص على سبيل الفرض أن آيات الحدود هي قطعية الدلالة؟
نعلم أن جدلية الدولة المدنية والدولة الوطنية في أروقة الحركات الإسلامية لن ينتهي بهذه السهولة، في ظل وجود إرث فقهي قديم له ظروفه الزمنية، وشبه تعطل حالة الاجتهاد واعتماد العلماء الحاليين على تجميع آراء الفقهاء السابقين فيما يستحدث من مسائل، دون أن يكون لهم رأي شخصي يناسب زمانهم ووفقا لما هو مستجد وما تحكمه مصالح العباد. إلا أننا نجد أن رفض الحركات الإسلامية لمفهوم الدولة المدنية ومحاربته والوقوف في وجهه يعني تأخر نضوج الحياة السياسية في المنطقة العربية، وإعطاء مزيد من الوقت للإستبداد وحكم الفرد المطلق في تصريف أمور المنطقة ومصائر الشعوب.
قد يبدو الرهان الآن على جماعة الإخوان المسلمين (التنظيم الأكبر والمؤثر) بخلع ثوبها الفكري القديم، والتخلي عن الحلم الوهم باسترجاع الخلافة الإسلامية بنموذجها القديم والاستفادة من المنتج الغربي في الفكر والعلوم الإنسانية، وخصوصا السياسية، وتحويل نضالها السياسي إلى النضال من أجل إقامة الدول المدنية الحديثة الدولة الوطنية التي يسودها مبدأ المواطنة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. كما عليها أن تصل إلى قناعة بأن العلوم الإنسانية، وخصوصا السياسية، كما هي العلوم العلمية؛ لا يمكن أن تنتهي عند نموذج أو شكل من أشكال الدولة أو نظرية من نظريات الحكم.
لا شك في أن السنوات التسعين التي بذلتها الحركات الإسلامية في سبيل استعادة الخلافة الحلم كانت نتيجتها على المنطقة كارثية، إذ تم تقديم تلك الحقبة الزمنية كهدية مجانية ونفخة روح في سرة الاستبداد العربي ليعيش أطول. فقد استفاد من تلك الدعوات في إقناع الغرب بأن البديل عن استبداده ودكتاتوريته حالة من الدول الدينية تنتظر الشرق؛ دول دينية يراها الغرب باب للشر والويلات، والتي ذاقها من هذه النماذج من الدول التي سادت في أوروبا قبل الثورة الفرنسية.